لماذا تأخر العرب وتقدم غيرهم؟

 

سؤال طرح منذ عصر النهضة وبدايات المشروع النهضوي العربي في منتصف القرن التاسع عشر، وهو سؤال جدير بالوقوف عنده والإجابة عليه بهدف تلمس طريق الانتقال بالمجتمعات العربية إلى ركب الحضارة العالمية والالتحاق بعناوين القرن الواحد والعشرين حيث تقود الركب المجتمعات الغربية ومن اقتفى أثرها من شعوب العالم ولا سيما دول جنوب شرق آسيا ولا شك أن هذا السؤال مطروح كما أشرنا منذ مئات السنين حيث طرحه رواد النهضة العربية ويؤخذ على الطرح بأنه تركز على الإنتاج المعرفي دون النظر إلى أدوات المعرفة التي تطرح المنتج بمعنى تم التركيز على السلعة دون المصنع الذي هو العقل المنتج وهنا تبرز الحاجة للتركيز على الأدوات والرؤى والمفاهيم والمناهج التربوية وموقع العلم منها ومساحاته فيها وهي القادرة حقيقة على إحداث التغيير المطلوب من خلال دورها المأمول في صياغة العقل المبدع والمنتج.
إن تقدم أي مجتمع – وهذه حقيقة تاريخية – ينطلق من العنصر أو العناصر الفاعلة في حقله المعرفي وهذا هو حال المجتمعات قديمها وحديثها فإذا كانت الفلسفة هي العنصر الأساسي في التجربة اليونانية حيث شكل سقراط وأفلاطون وهيراقليطس رافعتها فإن العلم والتجريب كانا العنصر الفاعل والأساسي في الحقل المعرفي الغربي حيث غاليليو وديكارت أخرجا الثقافة الأوربية من عصر اللاهوت إلى عصر الفيزياء والكيمياء ومن التعامل مع ما وراء الطبيعة إلى البحث في الطبيعة ذاتها.
وإذا كان العنصران الأساسيان في الثقافة اليونانية والأوربية هما الفلسفة والعلم والتجربة فإن تحليل العقل الثقافي العربي يشير إلى أنه تركز بشكل أساسي على البلاغة والأدب والفقه والنحو بشكل أساسي ما يعني أن العنصر الأساسي في الحقل المعرفي العربي هو اللغة والبيان والفقه أو علوم اللغة ما يعني أن ثمة فارقاً كبيراً بين الناتج الثقافي العربي والناتج الثقافي الغربي، فهذا يتعامل مع الطبيعة والكون والمعرفة التجريبية ويتقدم وفقهما وذاك يتعامل مع البيان والصيغة اللفظية وشرح المتون ويبدع فيهما بلا شك ولكن لم يكن للجدل والعلم والفلسفة المساحة والحيز الأساسي فيها إلا في حدود الخلافات والاجتهادات الفقهية التي طالما تأثرت بالمذاهب الدينية أكثر من خضوعها للمنطق العلمي الموضوعي التحليلي.
إن التعامل مع النصوص يختلف تماماً عن التعامل مع الطبيعة والكون لأن النصوص تتميز بثباتها وسكونيتها خلاف الطبيعة حيث سمتها التغير والتبدل والعمق، حيث تتسع وتتعمق دائرة الكشف والاكتشاف، ما يعزز من دور العقل والتجربة في تحرير الإنسان من قيود الطبيعة ويمكنه من تطويعها لمصلحته بدل سيطرتها عليه وعلى تفكيره ووقوعه تحت رحمتها وهنا نصبح أمام عقل مبدع مغامر بدل عقل سلبي متلق خاضع وسكوني وما يستتبعه ذلك من حالة جمود للفكر واستقالة للعقل والإرادة الإنسانية المقتحمة والمغامرة في بحثها عن الحقيقة وسر الوجود والحياة.
لقد كان العلم والمعرفة والتجربة الأساس الذي قامت وما زالت عليه المجتمعات الغربية وهو الذي يفسر سر تقدمها ونجاحها على الصعيد التاريخي وهذا كله كان بمعزل عن السياسة فما لقيصر لقيصر وما لله لله، بينما نجد نقيض ذلك في المجتمعات العربية والإسلامية فالدور الذي قام به العلم والعلماء تحكم به الساسة أو السلطة على وجه العموم حيث لعبت دوراً سلبياً في ذلك وتوظيف العلم والثقافة بما يخدم مصالحها ووجودها وهذا يطرح سؤالاً مهماً يتعلق بعلاقة وموقع العلم والمعرفة والثقافة بإيديولوجيا السلطة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ودورها السلبي في إجهاض كل حركة فكرية وفلسفية لا تنسجم مع مصالحها وفلسفتها الدينية إن لم نقل المذهبية، وهذا يعود بنا إلى العصور التاريخية منذ الدولة الأموية والعباسية وما بعدهما وحتى بدايات القرن التاسع عشر يستثنى من ذلك كله عصر المأمون ومحمد علي باشا في مصر.
لقد هيمنت السلطة السياسية في المجتمعات العربية والإسلامية تاريخياً على واقع الحياة الاقتصادية والاجتماعية والفكرية فكان الكتاب والمثقفون على وجه العموم- خلا حالات استثنائية- لسان حالها يضاف إلى ذلك الاصطفافات الدينية والمذهبية حيث لم يحددها الحاضر بضروراته كما هو شأن المجتمعات الغربية وغيرها من مجتمعات احتلت مساحة مهمة في حقل الإنتاج الحضاري المعرفي وإنما تحكم بها الماضي بدلالته السياسية ورمزيته وليس بما يملكه من أفكار وحجج منطقية فلم تعد الفكرة تحمل جاذبيتها بذاتها وإنما من التوصيف والتصنيف السياسي والمذهبي والديني لمطلقها.
والحال: إن نهضة حقيقية تجعل مجتمعاتنا قادرة على الالتحاق العملي بركب الحضارة العالمية تحتاج لوقفة نقدية لبنيتنا الثقافية وعقلنا الجمعي وتحرير العقول والمجتمعات من كل آفات الماضي والمصالحة مع التاريخ بوصفه حركة إلى الإمام وليس حديث ذكريات والانطلاق إلى مجتمع المعرفة والابتكار والإقرار بتاريخية الماضي ومقولاته والتعامل مع الحاضر بقاموسه لا بقاموس الماضي وتكريس ثقافة العلم والمعرفة وسيادة القانون واحترام الإنسان بوصفه إنساناً ومنتجاً ثقافياً.
لقد كتب أفلاطون الفيلسوف اليوناني على أكاديميته قبل ثلاثة آلاف عام: من لم يكن مهندساً فلا يدخلن علينا.
د.خلف علي المفتاح

khalaf.almuftah@gmail.com
التاريخ: الأثنين 7-1-2019
رقم العدد : 16878

 

آخر الأخبار
تعاون اقتصادي وصحي بين غرفة دمشق والصيادلة السعودية: موقفنا من قيام الدولة الفلسطينية ثابت وليس محل تفاوض فيدان: الرئيسان الشرع وأردوغان ناقشا إعادة إعمار سوريا وأمن الحدود ومكافحة الإرهاب رئيس مجلس مدينة اللاذقية لـ"الثورة": ملفات مثقلة بالفساد والترهل.. وواقع خدمي سيىء "السكري القاتل الصامت" ندوة طبية في جمعية سلمية للمسنين استعداداً لموسم الري.. تنظيف قنوات الري في طرطوس مساع مستمرة للتطوير.. المهندس عكاش لـ"الثورة": ثلاث بوابات إلكترونية وعشرات الخدمات مع ازدياد حوادث السير.. الدفاع المدني يقدم إرشادات للسائقين صعوبات تواجه عمل محطة تعبئة الغاز في غرز بدرعا رجل أعمال يتبرع بتركيب منظومة طاقة شمسية لتربية درعا حتى الجوامع بدرعا لم تسلم من حقد عصابات الأسد الإجرامية المتقاعدون في القنيطرة يناشدون بصرف رواتبهم أجور النقل تثقل كاهل الأهالي بحلب.. ومناشدات بإعادة النظر بالتسعيرة مع بدء التوريدات.. انخفاض بأسعار المحروقات النقل: لا رسوم جمركية إضافية بعد جمركة السيارة على المعابر الحدودية البوصلة الصحيحة خلف أعمال تخريب واسعة.. الاحتلال يتوغل في "المعلقة" بالقنيطرة ووفد أممي يتفقد مبنى المحافظة الشرع في تركيا.. ما أبرز الملفات التي سيناقشها مع أردوغان؟ بزيادة 20%.. مدير الزراعة: قرض عيني لمزارعي القمح في إدلب تجربة يابانية برؤية سورية.. ورشة عمل لتعزيز الأداء الصناعي بمنهجية 5S