وكأن تفتح الأزهار الربيعية قد بدأ في صالات العرض بدمشق قبل أن يبدأ في حدائقها وبساتينها، مبشراً بعودة الحيوية إلى المشهد التشكيلي السوري، الذي واجه بإصرار التحديات العديدة خلال السنوات الثماني الماضية. فقد شهدت هذه الصالات في الآونة الأخيرة وفرة من المعارض الفردية والجماعية التي شارك فيها تشكيليون من أجيال متباينة، بعضها استعادت حصيلة تجربة طويلة، وبعضها الآخر قدم نتاج تجربته الأولى.
أحدث هذه المعارض كان معرض الفنان ممدوح قشلان الذي افتتح قبل يومين في غاليري كامل مستضيفاً عدداً من لوحاته ودراساته التي حرصت على الدوام على تقديم البيئة المحلية ضمن رؤية تشكيلية خاصة. تلك البيئة التي عرفها بداية في حي (سوق ساروجة) الشعبي بدمشق القديمة مذ تفتحت عيناه عام 1928 على مشاهد الحياة، لكن الصور الأرسخ في ذاكرته كانت من منطقة (كيوان) على أطراف دمشق حيث انتقلت عائلته للسكن هناك بعد بضع سنوات تزامنت مع دخوله إلى المدرسة، وفي مدرسة (التطبيقات المسلكية) كان على موعد مع الفنان الرائد (عبد العزيز نشواتي) الذي تعلم على يديه أول مبادئ الرسم، كما تعلم منه الكثير من سلوكيات الحياة. غير أن الحدث الذي حدد خياراته المستقبلية كان لقاؤه بعد ذلك بسنوات بالفنان المعلم (محمود جلال).
قبيل إتمام دراسته الفنية المتعددة الأوجه في (روما) بدأت مسيرته تقدم عطاءها الفني على صعيد الإبداع الشخصي، وعلى صعيد العمل التعليمي، وأيضاً على صعيد العمل النقابي التشكيلي. وفي أواخر عام 1957 عاد (ممدوح قشلان) وزميله الفنان المعلم (محمود حماد) من (روما) بعد أن أتما بتفوق دراستهما فيها وعينا معلمين للرسم في مدينة (درعا) وخلال زيارة لمنزلهما هناك لفتت أعمالهما انتباه الأستاذ (بشير زهدي) الذي عرض عليهما إقامة معرض لها، وضم المعرض لوحات زيتية إضافة إلى أعمال في الحفر والخزف، اللذان عُرضا لأول مرة في معرض فني سوري. وإثر زيارة وزير التربية في دولة الوحدة للمعرض قرر نقل (ممدوح قشلان) إلى القاهرة للاستفادة بقدر أكبر من معارفه الفنية الجديدة، لتبدأ مرحلة ثرية جديدة في مسيرته الفنية.
لفتت لوحاته التي تقدم مشاهد البيئة والعمارة السورية الانتباه خارج سورية، وهو ما جعل مكتب (اليونسيف) في دمشق يحرص سنوياً على اقتناء مجموعة من البطاقات التي تحمل صور لوحاته لإرسالها كبطاقات تهنئة بقدوم العام الجديد. ومن ثم قامت (اليونسيف) بطباعة عدد من لوحاته على بطاقاتها الشهيرة لتوزع في جميع أنحاء العالم، وكانت المرة الوحيدة التي تطبع فيها المنظمة لوحات فنان سوري، وإحدى المرات النادرة التي تطبع لوحات لفنان عربي.
إلى جانب عمله الإبداعي، وعمله في التعليم، وعمله النقابي، قّدم (ممدوح قشلان) الكثير من النصوص الفنية التي تتناول تجارب فنانين معاصرين، إضافة إلى تأليفه كتب حول (لؤي كيالي) و(محمود جلال) وكتاب ثالث يرصد الحياة التشكيلية السورية خلال نصف قرن من خلال حوارات أجراها مع عدد من الفنانين الذين كان لهم حضورهم الفاعل على الساحة التشكيلية السورية. وفي المقابل تحتفظ ذاكرته بكثير من الحكايات التي تصف تفاعل المشاهدين خارج سورية مع أعماله.
تتوزع أعمال (ممدوح قشلان) اليوم في قصر الشعب، والمتحف الوطني بدمشق، ومتحف دمّر، ومتحف حلب، ومتاحف كل من: بيروت (سرسق)، الجزائر، القاهرة، تونس، الرباط، فارنا، تيتوغراد (مونت نيجرو)، صوفيا، كابروفو، تارغوفيشت (بلغاريا)، بلدية مدينة ليل الفرنسية، إضافة الى مجموعات خاصة. وبعد أكثر من مئة معرض فردي في أنحاء مختلفة من العالم لا يزال (ممدوح قشلان) يتابع عطاءه الإبداعي في (صالة إيبلا) التي تتحول إلى مرسمه الشخصي خارج أوقات المعارض، مكرساً حضوره الفاعل في الحياة التشكيلية السورية، بعد أن تكرّس اسمه منذ سنوات طويلة بين أشهر أسمائها.
www.facebook.com/saad.alkassem
سعد القاسم
التاريخ: الثلاثاء 5-3-2019
الرقم: 16924