الترفيه لم يعد إضافة في حياتنا المعاصرة، بل أصبح في كل وقت، وبكل السبل، والوسائل الحديثة.. حتى أن أوقاتنا لم تعد تستطع أن تحصِّن نفسها ضده وهو يتسلل إليها دون سابق إخطار.. وكأنه يعرف مسار خطواتنا اليومية، ولهذا فهو يصرُّ على أن يرصدنا من نوافذ هذه الوسائل الحديثة، وليصبح عالماً بأمزجتنا، فإذا به يأتي إلينا سواء عبر وسائل تواصلنا المتعددة، أم من خلال شاشة التلفاز، ليمنحنا متعتة.. ولم يبق سوى أن يثبتوا لنا شاشات عملاقة في الشوارع تسعفنا بما يعرض عليها بجرعات من الترفيه نتناولها ونحن على الطرقات.
ولعله ليس بخطأ فادح هذا الذي نحصل عليه من جرعاته وسط تعقيدات الحياة، وتسارعها، واتجاهها نحو مزيد من التعقيد، والسرعة أيضاً.
أما صغارنا قبل كبارنا فقد خصصت لهم منافذ لا حصر لها للمرح، واللعب تحت خانة التسلية.. ولو أن هناك وبنسبة أقل ما يقابلها من مواقع التوجيه، والتعليم، وتطوير القدرات.
فهل أصبحت حياتنا كلها ترفيهاً، والإعلام يتسابق إلى تسليتنا ببرامجه، ومسلسلاته.. ونحن نتناول الحياة بمأخذ سهل؟ حتى فواجعنا حولناها إلى كوميديا.. وليتها كانت الكوميديا السوداء لأنها على الأقل ستمزج بين الضحكة والدمعة.. أما ما نقترفه الآن فهو الضحك، والترفيه الذي وصل إلى البرامج الرخيصة التي لا تهتم إلا بالابتذال لصالح الإضحاك.. وأولادنا لم نهتم بماذا يشاهدون.. المهم أنهم في حالة من التسلية، والتلهية الدائمتين.
كل هذا جعلنا لا نتنبه إلى أن عيوناً شريرة تنفتح علينا عبر تلك الوسائل، والشاشات التي تمتعنا، وترفه عنا.. وأن للشر وجهاً آخر جديداً.. يبرز على صفحات الألعاب الالكترونية، والتي تنحرف كثيراً في مقاصدها ولو كانت مغلفة بالبراءة، وتدعي حسن النوايا، إلا أنها أولاً وأخيراً تهدف إلى التشجيع على العنف.. ونحن نتساءل: ترى من هو الشيطان الأكبر الذي يأتي من ورائها، وبعضها مجهولة المصدر، والهوية؟.. ومن قبلها كانت المخدرات الرقمية.. هي تـــــارة ـ وأقصد تلك الألعاب الالكترونية الانتحارية ـ على شكل حوت أزرق يضمن الموت المحقق للذي يلعب معه، وأخرى على شكل بنت صغيرة ذات ملامح رهيفة، وبريئة هي (ميريام) التي تاهت عن منزلها، وبانتظار أن نساعدها، وثالثة هي لتحدي (شارلي) الذي يجيد تحريك الأشياء عن بعد، ورابعة لوحوش (البوكيمون) المجنونة، وخامسة تدعي أنها جنية النار التي تحرق، وآخرها هي (مومو) تلك الدمية المشوهة ذات الوجه القبيح المستوحى من أعمال فنان الدمى الياباني (هاياشي).. والتي تكتسح شهرتها الساحة الآن.
إلا أن الآنسة (مومو) وبشاعة ملامحها تنبئ ببشاعة نواياها، ومقاصدها أصبحت هي الأبرز، والأشهر من بين غيرها من الألعاب القاتلة، فهي لا تفرق بين كبار وصغار، ولا يحلو لها إلا أن تبرز لهدفها في وقت متأخر من الليل، وهي التي تأتي إليه قبل أن يبحث هو عنها، وفوق ذلك فهي بارعة في التحدث بكثير من اللغات، وتستطيع من خلال محادثتها أن تنسيك وجهها المرعب المنفر فإذا بضحيتها يألفها ليستمر معها في لعبتها الخطرة، ولا تعود هي (مومو) المرعبة، بل المسلية وهي تأخذ محدثها دون أن يدرك إلى حيث لم يكن يرغب، أو يتوقع.
وعندما تنحدر القيم، والمثل العليا في الحياة تصبح المعادلة خاسرة بين الخير، والشر.. لينتصر الأقبح.. وها هي ألعاب الشر تنتشر بسرعة عابرة للقارات.. وها هي الآنسة (مومو) تقود من تدخله إلى دائرتها إلى الهوس والجنون، ومن بعدهما الجريمة.. الانتحار، أو القتل لا فرق.. المهم أنها الجريمة التي شكلت تلك اللعبة الدافع لها.
والأجيال من المراهقين شرقاً وغرباً قد استُلبت بهذه الألعاب.. فإلى أين نحن سائرون؟.. ألا نتنبه إلى أبواب الشر هذه إلا بعد أن يقع المحظور كي نهب لإغلاقها؟ هل كان يجب أن ننتظر حتى تقوم وسائل الإعلام التقليدية بالتنبيه، والتحذير، وأن تتخذ بعض الحكومات الإجراءات للحماية من مكر (مومو)، وأن تخرج الفتاوى الدينية التي تحرم مثل هذه الألعاب لكي نتنبه إلى ما يجري؟ وهل كان يجب أن تقع الضحايا حتى ندرك حماقة استخدام مثل هذه الألعاب الانتحارية؟ ولو لم تكشفها وسائل التواصل الاجتماعي وتفضحها بالحديث عنها بكل اللغات لكان الانتشار أعم، والخسائر أكبر.
حياة رقمية باتت تتمدد كأفعى طويلة الذيل.. لتلتف حول كل من يقترب منها ممن صغرت أعمارهم، وقلت تجربتهم الحياتية.. ولتصبح الحياة ثمناً لمن خاطر في تجربتها.. وهنا يكمن دور الكبار، والتحدي في الوصول إلى حجبها قبل أن يقع الأبناء فريسة في مصيدتها.. والآنسة (مومو) هي خير مثال لإغراء المغامرة الحمقاء.
لينا كيلاني
التاريخ: الجمعة 22-3-2019
الرقم: 16938