رغم الإعلان الأميركي المزعوم بخصوص انتهاء أو سقوط تنظيم داعش الارهابي في كل من سورية والعراق، وقيام الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنسب هذا السقوط إلى تحالف أميركا المزعوم ضد الارهاب، ما يزال هذا التنظيم الإرهابي الأكثر وحشية في التاريخ الحديث يحظى بالكثير من الاهتمام لجهة التحولات التي جرت عليه من لحظة النشوء المشبوهة تحت الرعاية الأميركية إبان احتلال العراق وصولاً إلى تشظيه في أماكن عديدة من العالم، كما يطرح الكثير من الأسئلة حول ما إذا كانت ما تسمى «الموجة الرابعة» من الارهاب قد انتهت فعلا أم أن هناك ارتدادات لها تحمل تسميات جديدة، إذ يصعب تصور الغرب دون اختراع مبررات جديدة للتدخل في شؤون هذه المنطقة أو غيرها من بقاع العالم، وقد يطرح اختفاء العدد الأكبر من عناصر التنظيم بعد «مسرحية الباغوز» شرق دير الزور تساؤلات حول الوجهة المقترحة لتوجههم، لمعرفة المنطقة أو البلد الجديد المرشح للدخول في لعبة الفوضى الأميركية المتنقلة حول العالم.
يقول محللون انه لا يزال من الصعب إدراك سبب استمرارية عدد من التنظيمات الارهابية رغم اختفاء مسببات نشوئها وبداياتها، وأقرب مثال على ذلك ما يحدث مع داعش، فالتنظيم منذ نشأته عام 2004 في العراق بقيادة الإرهابي القاعدي أبو مصعب الزرقاوي مستمر بالتحول والتحور من شكل إلى آخر ومن تسمية إلى أخرى تبعاً للأهداف التخريبية الموضوعة أمامه، فمنذ إعلان إنشاء ما يسمى الخلافة الإسلامية بين العراق وسورية «داعش»، انتقل التنظيم وتمدد في بقاع مختلفة من العالم ونفذ عمليات إرهابية كمليشيا متشرذمة مرتبطة بمتزعم التنظيم المدعو أبو بكر البغدادي، ثم تحول سريعا إلى شكل جديد وهو ما يعرف بالذئاب المنفردة التي نفذت عددا من الهجمات الصغيرة في أوروبا ومناطق أخرى، في سياق ما يسمى عولمة الصراع أو عالمية المواجهة مع الغرب والأنظمة العربية المرتبطة به، الأمر الذي يمنح هذا النوع من التنظيمات الارهابية مساحة أكبر للتحرك ويساعده على الاستمرار إلى أطول فترة ممكنة، مع العلم أن ما جرى في الأعوام الخمسة الماضية يثبت أنه تنظيم استخباراتي تديره أجهزة استخبارات عالمية كبرى وتشرف على أنشطته لأهداف وغايات عدة من بينها تشويه صورة الإسلام كدين سلام والإساءة للمسلمين بوصفهم إرهابيين، حيث درج الغرب على استخدام مصطلح اسلاموفوبيا بشكل مقصود ومتكرر بهدف إلصاق تهمة الارهاب بالمسلمين واستثمار ذلك في الضغط عليهم واستباحة أراضيهم وثرواتهم كما تفعل واشنطن وحلفاؤها في المنطقة منذ سنوات طويلة.
الكثير من الكتب والدراسات تطرقت إلى هذا النوع من التنظيمات الارهابية في محاولة التعرف على الأسباب التي تقف خلف استمرارها، يقول الكاتب محمد توفيق في كتاب له بعنوان «الجماعات القتالية المعاصرة: الأفكار، الرموز، المرجعيات والمرتكزات» ان الفضل في ديمومة هذه التنظيمات واستمرارها، يعود إلى نسق الخطاب التعبوي الذي تستخدمه، أي خطاب تجنيد وحشد الأنصار من أجل المواجهة.
فيما يركز الكاتب أبو بكر ناجي في كتابه «إدارة التوحش»، على نمط المواجهة العالمية الشاملة الذي تبناه تنظيم «القاعدة» وطوره «داعش» بوحشية أكبر فيما بعد، مؤكداً أنه ارتكز على اللامركزية في نقل المعركة إلى خارج الأراضي السورية، وبشكل أكثر تأثيراً مما كانت عليه «القاعدة» في السابق.
وكان لافتا الأسلوب المتوحش الذي اعتمده التنظيم للترويج لنفسه، عبر تصدير «رعب الصورة» و«التخويف السينمائي» من أجل إحداث التأثير المطلوب. وهو ما منحه قدرة واسعة من أجل تجنيد أكبر عدد من المتأثرين برسائله الإعلامية المتطرفة، الأمر الذي استقطب إليه قتلة ومجرمين وإرهابيين من أصقاع مختلفة من العالم، ودائما بإشراف دولي حيث جاء الكثير منهم من أوروبا عبر تركيا إلى سورية والعراق، وهذا بالطبع لا يمكن أن يتم في غفلة عن أجهزة الاستخبارات التي تملك قوائم اسمية بحصة كل دولة من عناصر التنظيم، وقد فضح الرئيس الأميركي دونالد ترامب دول أوروبا عندما دعاها بالاسم لاستلام رعاياها ضمن داعش وهدد بإفلاتهم ما لم تبادر كل دولة لأخذ حصتها.
ولكن تبعاً للطريقة المشبوهة التي تم فيها إخراج عناصر التنظيم من سورية «ظاهرة اختفائهم المبهمة» ثمة قلق حيال معاودة التنظيم لملمة أشلائه في المنطقة، وبالأخص في المناطق الحدودية بين سورية والعراق، بسبب عدم الاستقرار الأمني الذي أوجده التدخل الأميركي والذي حال دون قيام دمشق وبغداد بتنظيف هذه المنطقة من بقايا التنظيم.
ولعل ما يثير السخرية هنا هو تحذير الجنرال الأميركي جوزيف فوتيل من توزع مقاتلي داعش بقدراتهم العسكرية الكاملة في عدد من المناطق السورية والعراقية، وكأن هذا الانتشار أو التوزع الذي يتحدث عنه فوتيل قد تم بعيداً عن أعين الأميركيين الذين يجوبون الجزيرة السورية بكل أنواع أجهزة الرصد الاصطناعية والبشرية عبر مرتزقتهم في قسد. يرجح متابعون أن يستمر التهديد الداعشي رغم الإعلان الأميركي الملغوم حول نهاية التنظيم، وأن تستمر ذئابه المنفردة بالعمل في أكثر من مكان، مع وجود خلايا نائمة تحمل الايديولوجية المتطرفة للتنظيم في كثير من البلدان. وفي هذا الإطار حذّر رئيس شرطة مكافحة الإرهاب في بريطانيا، كلارك غاريث، من شن كل من تنظيم «القاعدة» و«داعش» حملة إعلامية قوية في الآونة الأخيرة، بهدف أدلجة واستقطاب جماعات جديدة حول العالم، الأمر الذي يظهر قدرة هذه التنظيمات على التصدي، ومواجهة الرقابة الدولية على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
كما تصاعد اللغط الدولي حول التنظيم مع تصاعد أزمة عودة المقاتلين الأجانب إلى بلدانهم، وعدم رغبة عدد من الدول في استقبالهم، بل وسحب الجنسيات منهم. وذلك في غضون توجه دولي نحو صعوبة إعادة تأهيل المقاتلين الأجانب، بعد ما خبروه في مناطق الصراع، وأن السعي نحو دمجهم في مجتمعاتهم قد يهدد بنشر الفكر المتطرف. إلا أن جميع الحالات تنذر بتحويل المقاتلين الأجانب إلى قنابل موقوتة، إن لم يتم معالجة أزمة وجودهم.
باختصار يمكن القول ان تنظيم داعش كان نتاجاً لظروف أمنية خلقها التدخل الغربي في شؤون المنطقة وفرضه منطق البلطجة والعدوان والقهر في التعاطي مع قضاياها إضافة إلى ظروف أخرى أوجدتها أنظمة عربية تابعة للغرب حيث كان ظهور تنظيم القاعدة في الثمانينات حصيلة تعاون مشبوه بين النظام السعودي والولايات المتحدة الأميركية هدفه مواجهة المد الشيوعي، في حين كان داعش من نتائج الاحتلال الأميركي للعراق، وما لم تتم معالجة مسببات التطرف التي أدت إلى ظهور هذه التنظيمات، فإنها ستظهر على الساحة مجددا وربما بأسماء جديدة.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الأربعاء 10-4-2019
رقم العدد : 16953