ملحق ثقافي-د. محمود شاهين:
«تقوم أعمال الفنان فضل زيادة على ثلاث مربعات متداخلة تبني عالماً من مادة بكر، تقول هكذا كان الوجود قبل أن تعلو الجاذبيّة، معلقة في الفضاء، نسمع فيها نشيداً مزموريّاً ملازماً لتلك المشاهد الرؤيويّة التي يصعب للعين اختراق أسرارها. فهي صنيع فنان متأمل في جوهر الدنيا لا في ضجيجها. في روعتها لا فيما تفعل الاختراعات من خدمات للبشر، وعداء للطبيعة».
بهذه الرؤية تطل «مي منسي» على تجربة الفنان التشكيلي اللبناني «فضل زيادة» التي وثق لها بكتاب أعده ونشره بنفسه، مضمناً إياه جملة من النصوص التي كتبها مجموعة من النقاد والاختصاصين حول تجربته التي توزعت على اللوحة الجداريّة الهندسيّة الكبيرة واللوحة الحُجريّة الصغيرة، وعاشت عدة انعطافات. بدأتها بالواقعيّة المبسطة والمختزلة إلى مساحات نظيفة، مدروسة، تتنفس روح التكعيبيّة، وانتهت إلى هندسيّة صارمة، يغلب عليها الطابع التزييني وفن خداع البصر. وكما تنوعت الصياغات في تجربة الفنان زيادة، تنوعت التقانات اللونيّة التي عالج بها لوحاته الحُجريّة المسنديّة والجداريّة.
«فضل زيادة» كما تراه هند الصوفي، مهندس متناسق في بناء مشاهده الفنيّة، وأستاذ بليغ في متانة التأليف. يبدأ عمله في تخطيط مدروس ومن ثم يباشر في نحت مشهده بمعجون من الرمل الملون، يمده حيث تناديه تضاريس الأرض، أرض الكواكب. هنا تتوهم أنك تعرفت إلى شكلها الدائري، أو أحد تجمعاتها ووديانها الحيويّة. وهي متشابهة بأرضنا البعيدة عن الحضارات والتكنولوجيا التي يرفضها الفنان بكل المقاييس.
أما نزيه خاطر، فيرى أن فضل زيادة ذكي ومنطقي وجائز القول إن معارفه قبل عواطفه، وإنه معمار ورسام بشكل متوازن، وأن لوحته ثمرة عقلانيّة متصالحة مع ذوقها، يبني وبعدئذٍ يعتني بأناقة أشكاله وكأنه يعطي زياً للفراغ. ومن هذه الزاوية تطل علاقة فضل زيادة بالمدى الكوني، علاقة روائيّة خرافيّة، وإن تميزت أجواء عمله بالحذر الفعلي من الموضوع في النص الأدبي. مطرب لون؟ نعم، غير أنه رحالة جريء في الصياغات التشكيليّة الخرافيّة.
أحمد بزون يرى أن التجريد الذي يقدمه فضل زيادة خارج الزمان والمكان، شأنه شأن التجريد الإسلامي والهندسي الذي اعتمد على الخط والنقطة، لكن أعماله تثير الكثير من التساؤلات التي ليست خارج الزمان، وإنما داخل الزمان من حيث الهم الذي تحمله، وإن كانت المسافة بين رموزها وتمثلاتها بعيدة، هذه المسافة التي تُذكّر بالشاعر الإنكليزي بليك الذي رأى السماء في زهرة بريّة. إن التجريد الذي يقدمه خارج الزمان والمكان، شأنه شأن التجريد الإسلامي الهندسي الذي اعتمد على الخط والنقطة. صحيح أن أعماله تقدم مساحاتها اللونيّة حواراً بين الحامي والبارد، والغامق والفاتح. وصحيح أيضاً أن الحركة داخل اللوحة تؤكد وجود روح. إن الفنان رغم إصراره على صوفيّة لوحته، فإن ثمة فرقاً بين الحركة العاطفيّة الانفعاليّة والحركة الرومنسيّة. بين التجريد التعبيري والتجريد المطلق. بين حركة البصر وحركة القلب مثلاً، بين الحركة التي تبقى عند حدود البصر، وتلك التي تتخطاها وتستجيب للانفعالات الداخليّة.
وتذهب ناديا نصار إلى التأكيد أن فضل زيادة يغامر في رسم الشكل والخط واللون والصياغة، لتقديم عالم جديد يشعرك بقوة وصلابة هندسيّة وتناغم اللون وليونته وتوافق الحركة. استلهم التراث بشكله وروحه وعالمه بأشكال معاصرة، وألوان شرقيّة شفافة، حالمة، واضحة، ومستقلة، بحيث يمكن القول، إن أعماله تُعبّر عن بعض صوفيّة الروح الأزليّة، ضمن خط تشكيلي، يُشكّل الخط الفاصل بين اللون الواحد، وأحياناً المساحة اللونيّة عنده عالم قائم بذاته، يعطي الإحساس باللاحدود. إن عالم هذا الفنان يقوم عل أسس هي: النظام، الجمال، والتأكيد. لقد اتخذ الفنان زيادة عالم الصحراء الترابي، وحوّله إلى حركة تصاعديّة تزداد شفافيّة كلما ارتفعت إلى عالم الأثير. لقد عبّر عن السمو والانتقال من عالم المادة إلى عالم الروح، حيث الطهارة والصفاء، ولاسيّما أنه أعطاها صيغة الوحي، ومهبط النبوة، وانطلاق القديسين والمتصوفين. نستشف منها التقشف والزهد والشعر والالهام.
الصحراء عنده تكشف عن عظمة الكون اللامتناهي أمام الوجود الإنساني العابر. إنه يُقرّبنا في صحرائه من الله، وكأنها هذا الوصل بين الوجود والعدم، حتى الزمن عنده تعبير عما قبل الزمن.
أما مي منسي فترى أن عالم زيادة المجسم هيولي، مترفّع عن ثقل الجماد، متحرك يخدم طاقة المخيلة في الشرود خارج حدود المنطق، مع أنه بالمنطق، ناغم وعَبّر ورَبط، حتى جاء الظل أليف الفضاء، وأنيس الأرض، وهو بشكل عام، يترك في وجدان المتلقي رسالة ترتاح لها النفس، وتتفاعل مع تلك العناصر الطبيعيّة التي باتت وحيه ورهانه على نسيج لوحة متزهده للفرح الأسمى. تفتننا الألوان في البدء، مثيرة في اختلاطها أو في أحاديتها، متعاشقة في تناقضاتها، سلسلة في الضوء المنبعث من لحمتها، إنه فعلاً شاعر اللون، يتحسسه بأليافه المستيقظة دوماً على الأرهف والأجمل، لذا تراه موظفاً قدراته التقانيّة البارعة ليحقق لوحة من وحي هذه الحياة، المجلوة للاحتفال بعرس الخلق المتمادي أمامنا، المنساب من مربع صغير إلى آخر أكبر وأوسع. يرسم الأرض والسماء في جبلة واحدة، مدققة في عناصرها، مغسولة في فوضى التعجيق، لتنبسط أمام العين، تنويسات متخاوية ببعضها، مرهفة، تسعد النظر، تطرح على الزائر ألف سؤال وسؤال حول هذا اللقاء الباهر بين التقانة المتينة والرسالة الأرضيّة.
وباختصار يمكن القول، إن فضل زيادة، ابن طرابلس، تعدى جغرافيته وما تحمله من مؤثرات على ريشة الفنان، وارتفع يقيس أرض الفضاء وهواءها ليزرع فيها بحره ومراكبه وجبلاً نائياً وأجراماً أليفة، تكاد تكون شطحاً لمدينته، أو صحوناً غامضة الاتجاه.
عمران القيسي يرى بأن ملاحظتنا تشكيلياً للمفردة التي يصوغها فضل زيادة، سرعان ما تضعنا أمام أشكال حدوديّة للإنسان من حيث أنه جزء تراكمي من أجزاء الأرض، تبدأ هذه الأشكال العامة بتكوين طبقات ذات إيقاع لوني يبدأ من القوي المعتم وينتهي بالشفاف المضيء، ولعل الفنان يريد هنا أن يزيد من حدة الارتباط ما بين الإنسان والأرض. أو يكسب المدى أنسنته. إن التوزيع العام للمفردات المتشابهة عنده وكأنه وسيلته إلى إيضاح قضية المدى الصحراوي الذي هو أوسع بكثير من همومنا الصغيرة. هنا لم يعد الفنان يقدم لنا حالة انبهاره بالمساحة الشرقية المشحونة بالضوء، إنما يقدم مقدرته التأليفيّة ذات الإيقاع السرياني والرمزي في الدرجة الأولى.
إن زيادة بفضل الانتقال الهادئ من درجة لونيّة إلى أخرى، وإكساب المدى جلال السكينة الهادئة، تمكّن من إشعارنا بثلاثة فوارق: الأول هو أن حالة اليقين في لوحته تأتي من قناعته بالموضوع وليس من يقينه النهائي بالتشكيل والتأليف، لذلك نراه يدخل الخيمة التي تشبه الصخرة المنحوتة، ويوسّع المساحة. الثاني أن الألوان عنده مفعمة بالإضاءة، فلا تقدم لك شمس الصحراء الحارة، أو تشعرك بلفح القيظ، وإنما تترك المشاهد يعيش انفعالاته هو بالذات. الثالث أن زيادة لم يعتمد الصحراويّة مرحلة من مراحله، فكل مراحله صحراويّة حتى الآن، وهذا ما يجعل لوحته المتحرك ضمن الثابت. من هنا تكسب مسيرة فضل زيادة أهميتها الخاصة ولاسيّما إذا ما نظرنا إليه كصوت منفرد ضمن تيار التشكيليين اللبنانيين.
سمير الصايغ يرى أن أعمال زيادة تتقدم نحو تجربة شكليّة فنيّة، حيث يغامر في رسم لوحة مسطحة الأبعاد، مسطحة الألوان، إلا أنه يعود ويلتقي مع رفاقه في الاستفادة من التراث. أي الوقوف مرة أخرى أمام الخط والشكل كسلطة فنيّة قادرة على صياغة العالم من جديد. إننا أمام طموح جديد، وأمام مواهب تعد بالكثير، ليس على الصعيد الفني الإبداعي فحسب، بل على صعيد الحركة الفنيّة التشكيليّة وأزماتها ومشكلاتها.
التاريخ 21-5-2019
رقم العدد:16982