لا يمتلك متحف الإنسان في باريس، الشهرة التي تتمتع بها متاحف أُخرى مثل اللوفر مثلاً، ولعل سبب ذلك طبيعة محتوياته التي تسعى لتكريس فكرة تفوق العرق الأوروبي، والتي دفعت بعض المعلقين لاعتبار هذا المتحف الذي أنشأه عالم الأعراق الفرنسي بول ريفيه عام 1937 (ويعد امتداداً لمتحف علم الأعراق في تروكاديرو الذي أنشئ عام 1878) وصمة عار في تاريخ فرنسا.
أحد أكثر معروضات متحف الإنسان إثارة للاستياء هو هيكل فتاة تدعى سارة بارتمان ، شاهدها صدفة طبيب بريطاني حين كان في زيارة لجنوب أفريقيا ولفت انتباهه عدم تناسق جسمها، فأقنعها بالسفر معه إلى بريطانيا بوعد الحياة المرفهة، لكنها أُجبرت على العمل في السيرك حيث كانت تقدم عرضاً يومياً تحاكي فيه الوحوش وهي عارية تماماً. وبعد أربع سنوات نُقلت لتعمل في سيرك باريسي، حيث درس جسدها جورج كوليه طبيب نابليون الخاص، ونشر عدة دراسات خلصت إلى أن أجسام الأفارقة متشابهة مع القردة، وأن الجنس الأوروبي هو الجنس السامي. وقد بقي هيكلها معروضاً في المتحف منذ رحيلها عام 1816، وحتى عام 2002، حيث استطاعت جمهورية جنوب افريقيا استعادة رفاتها ودفنها بشكل لائق بعد مفاوضات بدأها نيلسون مانديلا استمرت ثمان سنوات.
من بين جماجم آلاف الضحايا الموجودة في المتحف جمجمة سليمان الحلبي، مكتوباً تحتها: جمجمة مجرم. وهو وصف يتماشى مع الرواية الفرنسية عن سليمان الحلبي التي تسعى منذ قرنين لتحويله من مقاوم إلى قاتل مأجور. إذ لا يمكن للفكر العنصري إنصاف مقاوم مدافع عن وطنه، فكيف إذا كان هذا المقاوم قد قام بعملية قصاص فدائية من مجرمٍ حقيقي يعتبره الفرنسيون بطلاً قومياً، والمقصود طبعاً الجنرال كليبر قائد قوات الاحتلال الفرنسي في مصر خلفاً لبونابرت، الذي ثارت القاهرة ضد مخططاته للبقاء في مصر عام 1808، فنصب مدافعه على قمة جبل المقطم وشرع بقصف حي بولاق مركز الاحتجاج حتى جعله أثراً بعد عين؟
مقتل الجنرال كليبر، كان موضوع عدد كبير من اللوحات الزيتية وأعمال الحفر، أشهرها لوحة زيتية من مقتنيات متحف ستراسبورغ للبارون غرو الذي تبع خط معلمه جاك لويس دافيد في العودة إلى الكلاسيكية، ومن ثم كان بمثابة المدون البصري لحملات نابليون العسكرية. في هذه اللوحة يعمد غرو إلى تسليط الإضاءة على كليبر وكبير مهندسيه، وإخفاء سليمان الحلبي في العتم – إلى حد ما – رغم أنه العنصر الأساسي في اللوحة. ومثل هذا الأمر نراه في لوحة ثانية لغرو معروضة في متحف اللوفرتحمل عنوان (زيارة بونابرت لضحايا الطاعون في يافا) تصور نابليون بونابرت وهو يزور عام 1799 القوات الفرنسية المنكوبة بالطاعون في فناء مسجد يافا الذي استخدم كمستشفى عسكري. حيث يلامس قرحة أحد الضحايا بيده العارية، بينما طبيبان عربيان يعالجان الضحايا (تصفهما بعض المواقع الفرنسية بأنهما عربيان يوزعان الخبز للمرضى). في هذه اللوحة منح غرو نابليون هالة مضيئة وإيماءات السيد المسيح التي تشفي البرص في اللوحات الدينية، بما يوحي أن فضيلة بونابرت وشجاعته تبرر أهوال الحرب. لكن ما أخفته اللوحة – بطبيعة الحال – هو أن وجود نابليون وجيشه في يافا كان إثر تسليم حاكمها لها مقابل المحافظة على أرواح سكان المدينة والجنود. وبعد استسلامها نقض نابليون وعوده وقام بإعدام حاكم المدينة، وإعدام الحامية التي كان يبلغ عددها 2440 جندياً (وفي بعض المصادر 4100 جندي) رمياً بالرصاص وإلقاء جثثهم في البحر، كما قام جنوده بأعمال قتل واغتصاب في المدينة. وبعد ذلك سمح بونابرت لمئات السكان بمغادرة المدينة لنشر أخبار هذه المذابح لبث الرعب والخوف في باقي المدن. ولكن وبعكس، ما تمناه تماماً، فقد تسببت هذه الأخبار في زيادة روح القتال والصمود، ففشل نابليون في حصار مدينة عكا ثم الكرك، وتسببت الجثث المتحللة في نشر وباء الطاعون الذي فتك بأعداد كبيرة من جنوده، مما اضطره إلى الانسحاب تماماً من الشام والعودة الى مصر، حيث سلم القيادة لكليبر وعاد إلى فرنسا.
الجزء الأكثر بشاعة من الحكاية يتعلق بالطريقة الوحشية التي أعدم بها سليمان الحلبي، حيث قُطع رأس ثلاثة من أصدقائه أمامه بحجة أنهم عرفوا بمخططه ولم يثنوه عنه. ومن ثم أحرقت يده اليمنى، وشق سكرتير كليبر (أندريه بيروس) جسده وهو حي ثم وُضع على عمود مدبب وبقي جثمانه في العراء لمدة أربعة أيام، وحين رحل الفرنسيون عن مصر أخذوا رفاته معهم، ونجح الطبيب الفرنسي لاريه (من أعضاء المجمع العلمي) في الحصول عليها وضمها إلى مجموعته الخاصة، وعرض جمجمته على طلبة الطب لعدة سنوات قبل أن ينتهي بها المطاف للعرض في (متحف الإنسان).
بقي أن نقول: إن الخنجر الذي شق فيه بيروس جسم سليمان الحلبي، معروضٌ في متحف فرنسي ثالث، هو متحف الفنون الجميلة في مدينة كاركاسون.
إضاءات – سعد القاسم