الثورة أون لاين – علي الأحمد:
باتت الموسيقى المعاصرة نتيجة اتجاهها نحو الخفّة والاستعراض، تنبذ المفاهيم الجماليّة المرتبطة بشكل أساس، بالكمال والبُعد الروحي، وهذا شيء طبيعيّ حين يتخلّى الموسيقيّ عن الدور الرسالي العظيم لهذا الفنّ، كما هو شأن الفنون عموماً، التي بدورها، أصابها التحلّل، والرتابة، والتناول السطحي لموضوعات إنسانيّة كانت محطّ اهتمام والتزام عميق بقضايا الإنسان الجوهريّة، وتوقه الدائم إلى الجمال وكلّ ما يثري ويعزّز دوره في الحياة، ومن أقدر، من الفنون، وخاصة الموسيقى، في إثراء دواخله وعوالمه النفسيّة والتعبير عنها بكلّ عمق وصدق.
نعم تعيش الموسيقى المعاصرة في غربة حقيقيّة، ونبذ غير مفهوم للتقاليد والقواعد والأصول الراسخة، التي انبنى عليها هذا الفن منذ أن وضع أسسها الفلاسفة، والحكماء، وعلماء هذا الفن، بغية فهم الكون وأسراره، عبر انضمام الموسيقى إلى العلوم الرياضيّة التي كانت تسمّى وقتها “الرابوع الرياضي” وهي “الحساب، والهندسة، والفلك، والموسيقى” وهو ما أنتج عبر العصور، موسيقى إنسانيّة محمّلة بقيم الجمال، والتعبير، والتصوير الوجداني، وفي كلّ الأنماط والتقاليد، الدينية، والوطنية، والعاطفية، وهذا ما سار عليه الموسيقيّ العربيّ القديم، عبر ارتحاله المعرفيّ والثقافيّ نحو الآخر المغاير، في سبيل إثراء فعل المثاقفة والحوار الحضاري الخلّاق، والبحث عن القواسم الإبداعيّة المشتركة، في سعي دؤوب لم ينقطع، لكتابة موسيقى عربيّة تقرأ دواخل الإنسان، وتجعله أكثر إنسانيّة وجمالاً وحضوراً خلّاقاً في الحياة.
وفي حقيقة الأمر، لا يُعرف عصر ابتعد عن هذه المفاهيم الراسخة، كعصرنا هذا، الذي أفرط في غرائبيّته، وشذوذه، عن دور وقيم وقيمة هذا الفن في عالم الإنسان بفعل غياب التربية الجماليّة والذوقيّة، واعتبار هذا الفن – وكلّ الفنون – كأداة ترفيه وتسلية ومزجاة الوقت لا أكثر ولا أقل، وهذا ما جعل المشهد المعاصر يتميّز بحالة غرائبية قد لا نجد لها تفسيراً، بحيث أصبح يُنظر إلى العمل اللا فني على أنّه عمل فني بحكم التكرار والتعوّد، وأصبح الشاذّ يحتلّ مكان الطبيعي، والدخيل يأخذ مكان الأصيل، والمدّعي مكان المبدع إلى ما هنالك من انزياحات وابتعاد كارثيّ، عن سلّم القيم التربويّة والأخلاقيّة، هذا الغياب المؤسف لهذه المفاهيم، أدّى في حقيقة الأمر، إلى نتائج سلبية وأزمات مستدامة، في فهم هذا الدور والبُعد الروحيّ والوجدانيّ، بما أدّى لاحقاً، إلى سطوة وتسيّد اللغة التجاريّة على تفاصيل المشهد المعاصر، ولا حاجة بنا هنا، إلى استحضار نماذج وعينات من إفرازات هذه اللغة التجارية العابرة التي أحدثت قطيعة معرفيّة مع الماضي، والتاريخ الإبداعي المديد، والموروث الروحي العظيم الذي تحقّق عبر الأزمنة.
تدفع موسيقات الشعوب ومن بينها موسيقانا العربية، أثماناً باهظة، من رصيدها وخزينها الإبداعي والأهم من شخصيتها الثقافية الدالة، خاصة مع صعود الصورة وإعلاء الغرائز الحسّيّة المريضة لأغنيات كئيبة معلبة، مصابة “بأنيميا إبداعية” يبدو أنّ لا شفاء منها.
يقول الباحث القدير “كفاح فاخوري” :” يجب إعداد شبابنا لشهادة عربيّة موسيقيّة تكون جواز مرورهم إلى العالم، وبهذه الطريقة لا يقفون على أبوابه مستجدين ليّمنّ عليهم بشهادة أشبه ما تكون بدكتوراة حلقة ثالثة، خاصة بالعالم الثالث، يجب أن نزيل من أذهان شبابنا عقدة النقص حيال موسيقاهم وتراثهم، فليتعلّموا الموسيقى الغربية ولكن إلى جانب موسيقاهم الشرقية.
والمهم أن نقدّم هذه الموسيقى التي تعكس هويتنا، وعندها سنفرض على الغرب احترامها لأنّه يحترم حضارته، يجب أن نكون صارمين في ما نطلبه من أنفسنا فلا نسمح بعد اليوم بوجود دجالين ينقلون إلى الغرب موسيقى يزعمون أنّها موسيقانا، أو أناس يقصدونه مرتزقين باسمها. يجب أن نتوقّف عن تعهير موسيقانا ثم نتباكى إذا استخفّ الخارج بها!.