الملحق الثقافي:
من القرية الصغيرة إلى التيه الذي لا أحد يعرف كيف ومتى يتوقف، وما المدى الذي يمكن أن يصله. العالم يحبس أنفاسه، في لحظة التحولات الكبرى، تبدو اقتصادية في ظاهرها، لكنها في العمق، ثقافية واجتماعية، يريدها العم سام أن تتجذر وتصبح حقيقة لا مفر منها، أسلوب حياة على الطريقة الأميركية، ومسخ الكائنات الحية التي لا تعرف إلا أن تكون مستهلكة لكل شيء، ليشبع الأبيض الأميركي، من هنا نرى أن القواعد الاميركية تحيط بالعالم، من كل حدب وصوب ويعسكرون كل شيء، لكن الأصح من ذلك أنهم يعملون منذ قرون على احتلال العالم نفسياً، وترويضه وتدجينه، وحسب منطلقات علمية أساسها علم النفس والتربية، وتغيير القيم والاتجاهات والمبادئ، ونشر الثقافة التي يريدونها، ولا يذهبن أحد إلى الظن أنهم يعملون حسب استراتيجيات القوة العسكرية، أبداً فقوتهم الباطشة هي الحامية لوسائل التدجين، وأحد جوانب الاحتلال النفسي للعالم بشكل مباشر أو غير مباشر.
فها هو أحد الفلاسفة الذرائعيين يكتب قائلاً: قل لي أي شعب تريد، اعطني مواصفاته، لأدجنه لك. فالأمر علم وتخطيط ونظريات نفسية وتربوية، تعيد صياغتك وتربيتك وتدجينك، والأخذ بك الى حيث يريد سدنة المال الأميركي وسادة العالم الجديد، وآباء أمة القطيعة. تظن نفسك حراً طليقاً، تعيش وهم مصطلحات الحرية، والديمقراطية، وشعارات تعتقد أنك عشت من أجلها، لكنك ما إن تقترب من حدود توظيفها لمصلحتك، وليس لخدمة العم سام، حتى يشد الحبل الذي ربطت به وتركه لك على غاربه حتى ظننت أنك أفلت، فإذا بك تعود إلى حظيرة التدجين، وإعادة هندستك كما يريدون.
ألم يصدر أشهر علماء النفس الأميركيين كتاباً هاماً جداً، ترجم إلى العربية تحت عنوان: تكنولوجيا السلوك الإنساني، إنه عالم النفس الأميركي سكينر، وكتابه ذائع الصيت مشهور، شكل انطلاقة حقيقية للعمل من أجل احتلال العالم نفسياً، وقدم للولايات المتحدة مفاتيح هذا الاحتلال، بدءاً من هوليود مروراً بالحلم الأميركي، وما زرعه في العالم، وجذب الشباب إلى الولايات المتحدة والوقوع في سحرها.
إنها أمركة العالم، ثقافياً، اجتماعياً، علمياً، غذائياً، أمركة عامة وشاملة، حيث كنت ينقلون إليك أنماط الحياة التي يضعونك على تخومها وعليك أن تلجها من أجل أن تكون عملية الترويض والتدجين سهلة، ولا تحتاج إلى استخدام القوة التي تجبرك على الولوج إلى الحظيرة.
الأميركانية
هذه الحال كان أشار إليها وقبل الجميع أحمد حيدر الكاتب والباحث السوري في كتابه الهام الصادر عام 1969/ تحت عنوان: “نحو حضارة جديدة”، وفي فصل جاء تحت اسم الأميركانية، حذر الباحث من أن العالم يتجه ألى الأمركة من خلال اغتيال ماضيه وذاكرته، ولم تكن الشابكة وثورة التقنيات قد وصلت ذروتها بعد، إذ يرى أن الأمركة تتم من خلال نقل الإنسان من مستوى القيمة إلى مستوى العيش، وأن نجعل هذا المستوى الأخير مكتفياً بذاته حاصلاً أيضاً على تبريره ومعقوليته، وذلك بأن نضع الماهية في عالم العيش هذا وأن نصنع لها أبعاداً من حوادثه تنسينا أبعادها الأصلية.
تلكم هي عملية التزوير الضخمة، أن ينخلع الإنسان وأن يطمئن إلى انخلاعه ويسعد بهذا الانخلاع لأنه نسي عالم القيمة؛ فقضيته قد نقلت من مستوى القيمة إلى مستوى العيش، وماهيته قد غرست في مستوى العيش هذا وصنعت لها أبعاداً زائفة، وبذلك يجد المنخلع نفسه مبرراً ومعقولاً وينتفي الشعور بالانخلاع، وتستأصل جذوة الثورة من نفوس البشر.
وماضي الشعب ينظر إليه نفس النظرة، فهو في نظر الأميركانية تاريخ مؤسف كان يجب أن يحصل على نحو آخر، ولذلك في نظرها علينا أن ننسى هذا التاريخ وأن نبدأ من جديد، ويستعاض عن هذا الماضي المحذوف الذي لا معنى له في نظر ضحايا الأميركانية، بضروب مزيفة من الماضي المصطنع، فيصبح الفرد الذي يحتفظ به معتزاً، هو جملة من المواقف السياحية المجمدة في صور فوتوغرافية وبطاقات وتواقيع ذوي النفوذ ومجموعة من التحف والهدايا التي تلقاها من أصدقاء المراسلة، وكذلك يحذف تاريخ الأمة، أو يعاد صنعه ويستعاض عنه بتاريخ حكومي مقرر سلفاً، فيلقن الطلاب تاريخاً معاصراً صنعته الصحافة وأجهزة الإعلام، قوامه المؤتمرات والمراسيم والمنظمات، أما بعد المستقبل، حامل القضية الذي نعبر الحاضر إليه، فتتغير النظرة إليه.
وحسب الاختلال النفسي الناتج عن الاحتلال النفسي الأميركي للعالم، فعلينا: أن نمر بالحاضر كراماً، وينبغي أن نملأه بالمغامرة والسياحة والصيد والجنس ومشاهدة السينما، وألا نترك فرصة للتساؤل، هذا إرهاص أولي للاحتلال النفسي الأميركي للعالم، ولكن كيف تم وما أدواته وإلى أين يقودنا؟
التاريخ: الثلاثاء15-9-2020
رقم العدد :1013