الملحق الثقافي:حاتم حميد محسن :
عُرف عن سورين كيركيجارد (1813-1855) قوله مع أننا نستطيع أن نفهم الحياة فقط بالنظر إلى الخلف، لكننا نستطيع أن نعيشها فقط نحو الأمام. إذا كان الأمر كذلك، سيكون من المستحيل فهم حياة المرء طالما لن تكون هناك أبداً أي نقطة للراحة، حيث نندفع دائماً نحو المستقبل حتى نصل نقطة الموت، وحينها سنكون وصلنا متأخرين. ما الفكرة من فهم حياة إنسان آخر؟ معظم كتّاب السير يعملون من موقع الموضوعية، يتبنّون رؤية شخص ما من الخارج بالنظر إليه ورؤية الحياة ككل مكتمل.
في سيرتها لكير كيجارد تتبنّى كلير كارلسل Clare Carlisle (1) بدلاً من ذلك اتجاهاً ذاتياً، تسأل ما شعورك أن تكون ككيركيجارد؟ إنها محاولة لتكون في الداخل قبل النظر إلى الخارج. إنها تأخذنا عبر الأحداث الرئيسية في حياة كيركيجارد وبالقدر الذي ينظر هو به في عينيه. هذا قد يكون مثيراً للالتباس لمن ليس لديهم معرفة سابقة بكيركيجارد، لأنهم ربما يرون سيراً أخرى مباشرة مثل سيرة كيركيجارد لستيفن باكهاوس (2016) قد تكون مدخلاً أكثر سهولة. لكن طريقة كارلسل تجلب معها ميزة الإحساس بالحياة كما تُعاش من حيث الحيوية والمباشرة. كان يُنظر إلى كيركيجارد كشخصية منعزلة بعيدة عن زمانها، نالت التقدير فقط بعد وفاته بوقت طويل. هنا نحن نراه في كوبنهاكن في زمانه في سياق من السكك الحديدية، حدائق تيفولي وفي الوسط الثقافي الدانماركي وحيث فلسفة هيجل التي كانت ذائعة الصيت. وفي الحقيقة، وجد كيركيجارد قرّاءً متحمسين في زمانه كان العديد منهم، كما تقول كارلايسل، من النساء اللواتي وجدن كيركيجارد يتعامل معهن بشكل متميز من القلب وإلى القلب. كارلايسل ذاتها تكرس هذا الكتاب لأستاذها جورج باتسون الذي عمل الكثير ليضع كيركيجارد في سياقه التاريخي خصيصاً الدانماركي، وليذكّرنا في كل شهاداته الوجودية، أنه بالأساس مفكر مسيحي.
نظرة تاريخية
تعرض كارلايسل كيركيجارد في ثلاث محطات هامة في حياته. تبدأ من عام 1843، عندما دخل لتوه في الثلاثينات من العمر، ينظر من شباك القطار في طريق عودته إلى كوبنهاكن من زيارته الثانية إلى برلين متأملاً مدى أهمية انقطاع علاقته مع محبوبته ريجين أولسن.
القسم الثاني يبدأ بعد خمس سنوات كمؤلف مكتمل النضج يقف عند شباك في بيت العائلة القديم الذي بيع مؤخراً، ينظر إلى الأسفل نحو الساحة متذكراً أبيه وطفولته وشبابه الذي أمضاه في ذلك البيت.
في القسم الثالث نحن في عام 1849 حيث يتأمل كيركيجارد مرة أخرى الهدف من كتاباته. أمامه سنوات العذاب الكبير عندما تعرّض للنقد العنيف من الصحافة البذيئة في كوبنهاكن، وهجومه على المسيحية المعاصرة. توفي عام 1855 بعد مرضه وبقائه شهراً في المستشفى. إن حياة كيركيجارد المختصرة نسبياً تميزت بالمقدرة على التفكير أكثر من كونها مجموعة متنوعة من الأحداث. أبوه كرجل أعمال ناجح كان قروياً. يرعى الأغنام حين كان شاباً، في سنواته الأخيرة هو كان قارئاً عظيماً للثيولوجي وكمجادل قوي سواء مع قسه أو مع أبنائه الأذكياء الذين أصبح أحدهم أسقفاً. كيجارد ذاته سجل نفسه كطالب ثيولوجي في جامعة كوبنهاكن لكن دراسته المتأنية استغرقت عشر سنوات ليحصل على درجة التخرج. كان كيجارد الشاب جميل المظهر. كارليسل تعكسه في مظهر غير مألوف من الحماس الرومانسي للطبيعة، يزور الريف في شمال زيلاند، متخيلاً غاباته وبحيراته المنعزلة في روح من الشعر الوجودي الرومانسي المعاصر. هذه المرحلة لم تستمر. عندما مات أبوه ورث ثروة لابأس بها، حيث أصبح نوعاً من إنسان المدينة، وانشغل مع ريجين المسلية له. هذا الانشغال انقطع فجأة. حياته بعد ذلك أصبحت مقتصرة على التفكير والكتابة.
عاش كيركيجارد في عدة أشكال متعاقبة من السكن في كوبنهاكن، بدأت فخمة ولكن عندما نفدت نقوده، راح يسكن في سكن أقل فخامة. وعندما مات في عام 1855 كانت جميع نقوده صُرفت وكان بيته لم يتعد حجمه غرفة أي طالب. رؤيته لكوبنهاكن ذاتها كانت متغيرة. في مرحلة ما ربما أحب العاصمة ومكان الإقامة، في أوقات أخرى نظر إلى العاصمة كمكان ضيق وأرض للهراء.
رومانسياً، كان كيركيجارد بارداً غير عاطفي. لا توجد هناك امرأة في حياته عدا ريجين. لكن علاقته بها شكلت موضوعاً في الكثير من كتاباته بشكل مباشر أو غير مباشر. هو يشعر بالحاجة لتبرير نفسه: «أنا أنهيت العلاقة لأجلها» كما ذكر. وفي مكان آخر هو يصرح لو أنه امتلك الإيمان لكان تزوجها، ولكن لو قام بهذا «فسوف لن يصبح أبداً ذاته» – ما كان يمكنه التأليف. في الوقت الذي تدهورت فيه العلاقة هو يخبر نفسه «أنا أشعر بقوة أكبر من أي وقت مضى بالحاجة إلى حريتي»، كيركيجارد يحتاج الحرية في العلاقة مع الله. هو يرى في المسيحية الحب الملائم، هناك دائماً ثلاثة أطراف. الطرف الوسيط هو الله. في (أعمال الحب، 1847)، هو يخبرنا أن حب بنت شابة سيكون عائقاً للعلاقة مع الله. وبشكل أعم، الصداقة والحب الإغرائي «فقط يعززان ويزيدان حب الذات». مع ذلك هو يستمر ليعترف بأن «الحب المغري هو بدون شك الأكثر سعادة في الحياة وأن الصداقة هي أعظم خير دنيوي».
صديق لكيركيجارد، يُطمئن ريجين بعد انتهاء علاقتهما، بيّن لها أن روح كيجارد كانت «منهمكة باستمرار مع ذاتها». يومياته الضخمة تشهد على هاجسه الذاتي، وأحياناً على غروره الذاتي الهائل. في أعماله المنشورة هو يمارس ما يسميه «الاتصالات غير المباشرة»، يعني أنه يتحدث من خلال أسماء مستعارة متنوعة قد لا تمثل بالضرورة رؤيته الخاصة. كارلايسل تلاحظ أن استعماله للاسم المستعار فشل حتى في زمانه في إخفاء هويته، لكنه فعلاً ساعد في إخفاء رغبته بالاعتراف.
هناك حتماً شيء ما من العمل المسرحي. عندما تعرّض للنقد في صفحات من (القرصان) – كانت صور الكارتون تصفه بسخرية كشخص يرتدي بنطالاً فيه إحدى ساقيه أطول من الأخرى – هو فكّر فيها بعبارات من المعاناة الدينية. هو يصرح في مذكراته «إن مثل هذا العذاب يعني أنه يجب أن يكون اختير ليكون ضحية». المذكرات هي سجل خاص كُتبت للأجيال القادمة، وهي يمكن أن تكون محيرة وغير واضحة. فمثلاً، هو يشير عدة مرات إلى «شوكة في الجسد» تمنعه من التمتع بعلاقات طبيعية، لكنه لم يحدد بالضبط ما هي. إذا كان القرّاء لا يجدونه شخصاً محبوباً، فلا شك أنه جعل نفسه شخصاً مثيراً للاهتمام.
موقفه من الكنيسة
تأثير كيركيجارد كان واضحاً. رغم أن آخرين قبله مثل بلاز باسكال رأوا أن حياة معظم الناس كانت «غير منسجمة ومزعجة وقلقة»، لكن لا أحد آخر وضع الفرد في الصدارة بنفس الطريقة، أو سأل بهذه الكثافة والاستمرارية عن الكيفية التي يعيش بها الكائن الإنساني في هذا العالم. في حالة كيركيجارد كان هذا ليس لغرض جعل الحياة أسهل، وإنما (كما يقول) لجعلها أكثر صعوبة. أتباع كيركيجارد الوجوديون مثل هايدجر وسارتر أكّدوا بأن مواجهة وعمل الخيارات كان ضرورياً إذا أريد العيش بأصالة، ولكن بالنسبة إليهم الأصالة أصبحت علاقة مع الذات، كيركيجارد رأى نفسه كمفكر مسيحي، مهمته في إعادة تعريف المسيحية للمسيحيين الذين اختزلوها إلى مسألة تملّق ومداهنة وامتثال اجتماعي. كنيسة الدولة الدانماركية رآها تمارس لعبة، هي فقط تلعب بـ المسيحية» تماماً كالطفل الذي يلعب ممارساً دور الجندي» – أي، عبر إزالة الخطر.
الفلاسفة السابقون «عقلنوا» الدين. لوك عرض المسيحية مجردة إلى أدنى حد من الإيمان المطلوب، كانط اختزلها إلى ما اعتبره أساس في الأخلاق، هيجل رأى الأفكار الدينية مجرد مراحل نحو الحقيقة التي يجب أن تُستكمل بالفلسفة. أما كيركيجارد، فإنه يرى أن الدين المسيحي كان ذاته هو الحقيقة، لكنها حقيقة تحتاج إلى اهتمام الفرد بها من «باطنه». هذا جوهر صيغته بأن «الحقيقة هي ذاتية». الدين ليس فقط مجرد عقيدة، وإنما يُعاش بعاطفة. الإيمان هو مسألة «تبنّي المخاطرة» وكلما كانت المخاطرة أكبر كلما كان الإيمان أكبر حسب كيركيجارد. في عصر الانتحاريين المتدينين، بعض صياغات كيركيجارد تبدو عرضة للمساءلة. كارلايسل تقول إنه يمكن أن يكون «نموذجاً خطيراً».
هل يمكن أن نسمي كيركيجارد متطرفا بالمصطلح الحاضر؟ بالطبع، كيركيجارد كان يكتب بسياق يختلف عن سياقنا نحن. هناك أيضاً إحساس في أخذه الأشياء إلى حافة التطرف عندما ينصحنا ألا نمتلك أطفالاً وألا ننتج «الكثير من الأرواح الضائعة» طالما أن هناك الكثير منها موجود سلفاً. ليس من الصعب العثور على مقاطع في كتاباته تجعل المرء يشك أنه بدرجة ما غير متوازن. وهذا ما يجعل منه مرشداً غير موثوق به للحياة. من الصحيح القول إنه امتلك لحظات صامتة عندما لم يعد كرجل إطفاء يقرع الجرس، كما يصف نفسه، عندما يعطي صوتاً للأفكار المضادة. في آخر نص، للاختبار الذاتي (1851)، هو مستعد للاعتراف ليس كل الطرق الصعبة تقود إلى السماء وأن المعاناة الشديدة يمكن أن تكون أيضاً مسألة حب أعمى ووهم ذاتي.
الهوامش
(1) كتاب فيلسوف القلب: الحياة القلقة لكيركيجارد، للكاتبة كلير كارلايسل صدر في 4 أبريل 2019 عن دار Allen Lane في 288 صفحة.
التاريخ: الثلاثاء22-9-2020
رقم العدد :1014