مفهومها مازال غامضاً في الأذهان، لم تتضح معاييره بعد عند من يحبون الظهور، ويسعون إلى لفت الانتباه.. إنها (الشهرة) التي تخطف ببريقها الأبصار دون أن تفصح عن الطريق إليها إلا لمن يملكون إمكانية الوصول.
وحتى وقت ليس ببعيد كانت المنافذ إلى الشهرة محدودة، ومشروطة بالموهبة، والإبداع، والتميز في الإنجاز.. والمجالات رحبة، وواسعة، بل أكبر من أن تُعد، أو أن تُحصى، وهي ليست خاصة بفئة معينة من الناس بل هي لكل من يملك الأسباب.
لكن نوعاً جديداً منها وفرته التكنولوجيا، والثورة الرقمية هكذا ببساطة دون جهود تُذكر، أو آثار تُحفظ.. بل إنه الاندماج مع هذه الوسائل الحديثة التي تستحوذ على المشاعر، وتستطيع أن تحقق حلم الشهرة السريعة، وليست تلك المحلية فقط بل يمكن لها أن تكون عالمية، وبسرعة البرق أيضاً.. حتى ولو كانت شهرة فارغة من المضمون إلا أن محبيها، والمتلهفين يسعون إليها.
وشهرة حديثة بل الأحدث منها باتت تتمدد في كل مكان مع وتيرة الحياة المتسارعة، وهي تلك التي تحظى بأكبر نسبٍ من المشاهدة على مواقع التواصل الاجتماعي.. ولا فرق في هذه الحال إن كان السبب فضيحة وهي الأسرع، والأكبر انتشاراً، أو إن كان مزاحاً سمجاً، أو إنجازاً كاذباً.. وأصحابها لا يهتمون، أو أنهم لا يفرِّقون بعد أن كُسرت الحدود بين ما هو خاص وما هو عام، ما داموا إلى الهدف يصلون.. حتى تحول الأمر إلى ظاهرة لإثبات الذات تستحق الوقوف عليها بالدرس، والتفسير.. وهذا ليس ببعيد عن علماء النفس، والاجتماع في الرصد، والتحليل.
فقاعات.. فقاعات من كل الأشكال، والألوان تحملها مواقع الإلكترون لممارسات استعراضية، أو فضح أمور شخصية وعائلية، أو مزاحاً مبتذلاً لا يستسيغه أحد سوى مَنْ قام به، ومَنْ شجعه عليه بهدف لفت الأنظار، وحصد أكبر مشاهدات تعود أرقامها بالمال.
ومنذ وقت قريب كانت هناك أكثر من واقعة على هذه الشاكلة، أثارت حولها التعليقات كأن يروّع الصغار مثلاً، أو أن تُعذب الحيوانات، أو غير ذلك من السخافات، ومنها ما جلبت لأصحابها المشاكل التي حولتهم ربما إلى القضاء، وتحولت قصصهم إلى ما يشكل رأياً عاماً مستنكراً بعد أن وجد الناس أن ما شاهدوه كان صادماً.. أما الأعذار فتؤكد أن الغاية إنما هي للتسلية، والإضحاك ولو تحول مَنْ قاموا بها إلى مهرجين، ولكن خارج السيرك.. وهم يستظرفون ما يقومون به دون أي محاكمة عقلية، أو اعتبارات اجتماعية، أو مراجعة لأنفسهم، ولا قيود للخصوصية، وكأن هذا الفضاء المفتوح هو نهر بلا ضفاف يمكن له أن يتسرب في أي اتجاه.. ولا أحد يفكر بمدى سوء ما يعرضه على الشبكة، أو ما يمكن أن يكون رد فعل الناس حياله قبل أن يقوم بفعله.
وعندما تقع الواقعة ويكون الاستنكار بدل الاستحسان تجد أن هؤلاء ليسوا أكثر من أناس على قدر متواضع من الوعي، أو الثقافة، أو أن بعض هذه الممارسات قد يكون مشبوهاً ومدفوعاً لغايات محددة، أو أن هناك مَنْ غُرر بهم حتى لا يدركوا أثر ما فعلوه إلا بعد أن يصطدموا بموجة الاستنكار، أو ينالوا العقاب.. ورغم ذلك فأمثال هؤلاء من صانعي المحتوى لهم من يقتدون بخطواتهم، ويسيرون على مِثالهم، وهم يقلدون، ويتسابقون على أرقام المتابعين، ولا يتنافسون لأن في التنافس ارتقاء، وفي التقليد انحدار.
ليس عيباً أن يبحث الناس عن الأضواء والشهرة، وهي ميول بشرية طبيعية، لكن على المرء أن يسأل نفسه عن أي شهرة يبحث، وما هو قدره منها، وما هي إمكاناته الحقيقية التي ستوصله حقاً إليها.. أما سوء استخدام وسائل الحضارة إنما يدل على عدم الوعي، وضحالة الثقافة.. هل نعدد أسماء المواقع الإلكترونية المستخدمة بهدف الظهور، ولفت الأنظار.. بل إنها مشهورة، ومعروفة، وهي تشجع إلى مزيد المزيد من عرض التفاهات، أو عرض الأجساد، وتفسح المجال للبذاءات في التعليقات، ولا مراعاة للتقاليد، والأعراف.. فإلى أين تسير بمشتركيها تلك المواقع؟ إلى مزيد من الضحالة والانحدار، أم إلى مزيد من الجرأة التي تتجاوز حدودها؟.
وما دامت الشهرة الآن لم تعد تلك المشروطة بالتميز فما عاد هناك من حساب في هذه الحال للتكافؤ بين مَنْ تسلقوا السلم عن جدارة وبين غيرهم، لأن الناس بعد مضي بعض الوقت سينسون الحدث غير ذي القيمة، ويتذكرون اسم صاحبه، وهو المطلوب.. لكن الزمن لا يمنح دمغته إلا للأصيل، بينما يُسقط من حسابه الدخيل.
ومَنْ يصعد في فقاعة الشهرة الكاذبة كمن يدخل في فقاعة صابون.. ما إن ترتفع قليلاً في الهواء حتى يصيبها الانفجار.. في حين يستمر المهرج بعروضه خارج السيرك.. وبين الاستحسان مرة، والاستنكار مرات.
(إضاءات) ـ لينــــــا كيـــــلاني