بعيداً عن الضوضاء وفي أحضان الطبيعة ترتسم خطواتهم المتسارعة قبل بزوع الشمس على التراب والرمال، في سعي حثيث لإعادة بعض البهاء إلى تلك الأودية المتعرجة والسهول التي حنت وجهها لشقاء الظروف المناخية.
فما بين موجات الحر المتعاقبة وبعض الرطوبة وكثير من الحرائق المفتعلة تحكي الأخاديد المتشققة قصص تلك المعاول التي كانت تقبض عليها سواعد الآباء والأجداد لتمنح الأرض السورية الطيبة ذاك الحنين وذاك الحب المعتصر مع كل حبة عرق وخفقة فؤاد وموال كان يصدح من الحناجر بكل صفاء الصوت، حين تكون الوجهة تلك الدروب القاسية التي تتهاوى أمام قبلة الأرض هذا الشريان الأصيل الذي أخذ يشق طريق العودة بقوة اليوم إلى تلك الجذور والتي من الصعب نسيانها أو تجاوزها بعدما تغيرت ظروف الحياة وبدأت تعبث مخاطرها الطارئة في كل الاتجاهات.
ما دفع العديد من الناس والأبناء اليوم وخاصة أولئك العائدون من المدن بعد قضاء سنوات العمل الوظيفي وبلوغ نهاية الخدمة لأن يبدؤوا رحلة جديدة من الشقاء المحبب وهي العودة إلى تلك الأرض لاستثمارها بعد أن شاخت من الإهمال وقلة الاعتناء وتركها لعوامل الزمن.
فالهجرة المعاكسة من المدينة إلى الريف باتت ظاهرة مجتمعية بامتياز وحالة إيجابية تعكس رغبة وحاجة الناس إلى التكيف والتأقلم مع واقع حياتي بات قاسياً وموحشاً في ظل الغلاء وفوضى الحرب العدوانية التي أرخت ذيولها المتشعبة على الاتجاهات كافة، فقراً وجوعاً وعوزاً.
وحدها الأرض التي تستر ماء الوجه، وتعين المرء في التغلب على صعوبات الحياة حين تدافع عنها، وتحرسها وتزرعها وتستثمر خيراتها، وتمنحها ذاك الوريد الذي غذاه الأقدمون من خلال التشبث بعنوانها والاهتمام بها.
فكم ترتاح نفسك وتعز عليك تلك الصورة المترامية على امتداد النظر وهي تحتفي بالناس المتعبين من صخب المدينة، وقد عادوا إلى تلك الأودية للعمل فيها واستصلاح ما أمكن منها، ليزرعوا بذور الخصب والخير من جديد، كما هم اليوم في موسم قطاف الزيتون لبعض المناطق التي لم تطلها الحرائق وألسنة اللهب المجنونة التي عكرت صفو البلاد بكل التفاصيل.
إنها الأرض، المانح الأكبر لعطاء الإنسان الواهب عرقه لها في علاقة متبادلة كموقع الروح في الجسد.. وحدها الأرض لا تمنن صاحبها وتمنحه بسخاء ومن دون حدود إذا ما أعطاها بعض جهده فكيف إذا بادلها ذاك الدفء وكأنها الابن المدلل؟.
عين المجتمع- غصون سليمان