ما حسبته نسياناً لم يكن سوى حضور عتيق في الأعماق البعيدة لوعيها.
تتعثر بكثيرٍ من الصداقات.. بشتّى طرق التعارف.. لكن من حينٍ لآخر يعود ليحضر بقوة في ذاكرتها.
تطمئن لفكرة وجوده، حتى لو كان وجوداً قصيّاً.
تدفقات هادرة من الذاكرة لا تستطيع إيقافها، تقتحم لحظاتها.
بهدوء، تُنصت لكل انسكابات الذكريات التي عاشها سويّاً..
تبتسم حين تتذكر صوت صفعتها على يده التي لامست يدها تلقائياً عندما أراد أن يشرح لها شيئاً ما في العمل.. وتضحك مستعيدةً رنين تلك الصفعة وصداها الذي سمعه كل مَن كان يجلس معهما بمكان عملٍ جمعهما يوماً..
توجعها حقيقة أن ليس لديها سوى حفنة ذكريات تقتات عليها من حين لآخر.
قلبه وطنٌ صغير..
كيف تعدّدت أوطاننا الصغيرة في مختلف بقاع الأرض..
فكرة جميلة لكنها محزنة بذات الوقت.. قلوب من نحبهم تنبض على أرضٍ لا نتشاركها وإياهم.
لعل كل ما تحياه من هواجس وتداعيات بسبب أن البعد يضفي على البعض رونقاً خاصاً، لا يظهر أثناء حضورهم القريب..
البُعد، بصيغةٍ ما، يجعل الآخر أجمل..
وفيه سرٌّ يكشف أهمية هذا الآخر ومقدار غلاوته لدينا.
كانت تعتقد أنه بمجرد غيابه سينزاح تدريجياً من عقلها لكن الذي حصل كان العكس.. معه تأكدتْ من مقولة جيمس جويس “الغياب هو أعلى أشكال الحضور”.
ما تبتغيه أنها تريد استثمار شكل هذا الغياب حتى الرمق الأخير منه..
ولهذا تقوم برسم تصورات لا نهائية لمن تحبّ، تصورات تفيض جمالاً..
تماماً كما حدث في فيلم (الجمال الجانبي).. الذي يطور مفهوم جمال مَن نحبهم حين غيابهم موتاً..
أما هي فتطوّر مفهوم الجمال كما تراه، لمن تحب أثناء غيابهم جسدياً فقط، تركز على ذكريات تتفشّى لا إرادياً في وعيها.
غريبٌ أمر قلبها الذي يهوى تشكيل صور من تحب على هواه.
الآن.. يلوّن كل ما بدا عليه سابقاً ذاك “الآخر البعيد”.. من غموض مزاجه المتقلّب أو هيئته اللامبالية..
يبدو أن “البُعد” ليس فضيلةً فحسب، بل له جاذبية من نوع خاص..
للبعد ميزان منطقه الفريد، الذي يقلب كل ما استقبلناه بمرأى العين من روتين عادات “الآخر” إلى مزايا نتلذذ باستعادتها بمرأى القلب لا بغيره.
رؤية – لميس علي