والأم التي أقصدها هي أمنا الأرض التي تحتضننا، وقد صمتت طويلاً على تجاوزاتنا، وعدم مراعاة بيئاتها المتنوعة براً، وبحراً.. أرضاً، وسماءً.. هواءً، وماءً.. فقطعنا غاباتها، وعرّضنا أجناساً، وأنواعاً من حيواناتها للانقراض نتيجة أطماع الصيد بكل أشكاله وصولاً إلى هدف الرفاهية والزينة كعاج أنياب الفيلة، وفراء الحيوانات التي تستخدم كمعاطف، وقفازات بينما لدينا الأنسجة التي تسعفنا بالدفء اللازم في الأجواء الباردة.. ولوثنا بحارها بما يصبّ فيها من مخلفات حتى النووية منها، أو يتسرب إليها من بقع النفط.. وأفسدنا هواءها بسبب صناعاتنا، ووسائط مواصلاتنا، لترتفع حرارتها بالاحتباس الحراري كمريض أصابته حمى، فتذوب ثلوج القطب الشمالي تناسباً مع درجات الحرارة المتزايدة، وبنسبٍ تتعاظم عاماً بعد عام ليرتفع بسببها منسوب البحار.. وأقمنا بيننا النزاعات، والصدامات وقد وصلت بنا إلى حد الحروب التي نستخدم فيها الأسلحة المدمّرة للبيئة.. وبعد كل ذلك فنحن لا نخجل من أنفسنا، ونتساءل ببراءة مصطنعة: هل تُرانا فعلاً أفسدنا بيئة الأرض؟.. بل هل يستحق استهلاكنا لها، ولو كان جائراً، أن تعاقبنا بالمقابل بالكوارث الطبيعية من تصحر، وجفاف، وزلازل، وأعاصير، وفيضانات، وحرائق للغابات تلتهب مع اتجاهات الريح؟ وهل ما فعلناه يستحق منها أن تجلب لنا الأوبئة، والأمراض، وأزمات المياه؟.. لكننا إذا كنا ندرك أننا فعلنا كل ذلك فلماذا نعاتب بينما الأرض تحاسب؟ أليس لها الحق في أن تدافع عن نفسها مقابل ما يفعله البشر فوقها؟.
وها هو زمن الأوبئة إذ يأتي ليجتاحنا بعد هذه التجاوزات فإنه إنما يصحح عن غير قصد المسار.. وتصبح الأرض اليوم في عيد لها تحاول أن تستعيد معه شيئاً مما فقدته من توازنها البيئي نتيجة النشاط البشري الذي استهلك كماً كبيراً من قدراتها، وثرواتها.. فاحتجاب البشر اليوم عن طرقاتهم، وشوارعهم، واختفاؤهم في بيوتهم اختياراً، أم إجباراً، وانخفاض استخدامهم لوسائط النقل، وعمليات الإغلاق، وتوقف بعض المصانع عن نفث سمومها في الأجواء، وانخفاض الانبعاثات الحرارية نتيجة تقليص الأنشطة البشرية، قد أنقذ بعضاً من هوائها من التلوث ليغدو أكثر نقاءً، ويجعلها تتنفس ارتياحاً. ومع انخفاض أعداد السفن التي تجوب أعالي البحار، وتراجع الصيد غير الشرعي أصبحت الحيوانات البحرية تنعم ببعض السلام، وبالحفاظ على حياتها. أما الحيوانات البرية فقد دفعها فضولها بعد اختباء البشر لأن تخرج من جحورها مستكشفة المكان حولها بعد أن اقترب الإنسان من عالمها أكثر مما ينبغي له من مسافة الأمان.. أو لعل هذه الكائنات البرية قد افتقدت الضوضاء البشرية فخرجت تبحث عنها، وعن وجوه أصحابها بعد أن ألفتها تحوم حولها. ومن الطريف ملاحظة هذا الافتقاد من الحيوان للنشاط البشري في حيزه رغم ما يلحقه به الضرر، وهو بالتالي أعاد إليه هذا الضرر بتصديره للأمراض بعد أن اقتحمنا مواطنه، ودمرنا الغابات التي تؤويه، وهو مستعد لتصدير المزيد من الأمراض، والأوبئة حيوانية المنشأ ما لم تتخذ خطوات سريعة حيال حماية الحياة البرية.
هذا النشاط الاقتصادي المتعاظم الذي نتج عنه التلوث، والذي صدّر لنا الجائحة لابد أن يقف في مواجهة نفسه في أقرب وقت ليعيد النظر في كمٍ كبيرٍ من التجاوزات على البيئة، ولهذا السبب أطلقت مبادرة مناخية عالمية شارك فيها ساسة، ودعمها علماء، ومشاهير، تحت مسمى (العد العكسي) لتعلن أن الواقع البيئي، والمناخ الحالي لم يعد يحتمل منا التأخير، وأن على القائمين على هذا الشأن لدى الجهات العالمية البحث عن حلول مجدية تدخل حيز الأفعال، ولا تبقى طي صفحات محبوسة في الأدراج.
وما هذا الهدوء الحالي في التوقف عن استغلال البيئة أكثر من أمر مؤقت لن يدوم طويلاً حتى تعود الحياة إلى طبيعتها في نشاطها الاقتصادي، والصناعي، وفي أفضل الأحوال قد يتم التمهيد مستقبلاً لبعض الاستخدامات الجديدة لتكون صديقة للبيئة.
الأرض الأم تتنفس من جديد.. الأرض الأم في عيد استثنائي لها.. أما استمراره فهو مرهون باستيعاب الإنسان للدرس الذي تلقنه إياه ثورات الأرض المجروحة بتجاوزاته، وبتلك القرارات الجادة والحاسمة التي بدأ العد العكسي لها، لدرء كوارث المناخ، والهروب من عصر الأوبئة.
(إضاءات ) – لينا كيلاني