التقط المناوب قي قسم الشرطة بتثاقل سماعة الهاتف الذي رن في وقت متأخر من الليل،وأدرك من اللحظة الأولى أن على الطرف الآخر متصل قد أطفأه مشروب كحولي..
قال المتصل الثمل: أريد التبليغ عن سرقة..
سأله المناوب وهو يغالب النعاس:
– ما الذي سُرق منك؟..فأجاب دون تردد: مقود سيارتي، ومأخذ مفتاح التشغيل، وعدادات السرعة والبنزين والحرارة، والساعة، وآلة التسجيل، ودرج (التابلوه)..
عقّب المناوب:
– أعطني رقم هاتفك، ونحن نحقق بالأمر ونخبرك..
وقبل أن يعود إلى إغفائه رن جرس الهاتف ثانية، ليأتيه صوت المتصل الثمل وهو يقول: أنا الذي اتصلت قبل قليل، أريد أن أسحب التبليغ فقد اكتشفت أني دخلت من الباب الخلفي للسيارة!!
شيء يشبه ما حصل مع المناوب، حصل معي منذ سنوات فقد جاءني اتصال هاتفي، ولكن في مطلع الليل، من كاتب صديق يفوح من صوته أثر مشروب قوي، أو كمية كبيرة من مشروب أقل قوة، لم يبلغ عن سرقة وإنما عن خطأ ارتكبته في عمودي الأسبوعي المنشور في اليوم السابق، حيث نسبت عملاً له – كما قال لي- إلى كاتب آخر، وبخلاف مناوب قسم الشرطة تفاعلت بحرارة مع (بلاغه) واعتذرت عن الخطأ الذي لم أنتبه له، مؤكداً أنه مجرد سهو لا أكثر، فأنا أعرف وأذكر جيداً أن العمل له، وليس للكاتب الذي قال إني نسبته إليه، وإمعاناً في الاعتراف بخطأي، غير المقصود، والرغبة الصادقة في التكفير عنه، وعدت الصديق المتصل أن أرسل تنويهاً وتصحيحاً للصحيفة حسب العرف المهني، أو أفعل ذلك في العمود الصحفي التالي..
أعددت (التنويه والتصحيح) كما وعدت، ولكن- ولحكمة ربانية- عدت لقراءة العمود للتوثق من مكمن الخطأ ففوجئت بأنه لا خطأ هناك، وأني لم أسهو فأكتب اسماً بدلاً عن اسم، ولم أجد سوى تفسر وحيد لما حدث، وهو أن صديقي، وبحكم ما احتساه قبل القراءة، والاتصال، قد زاغت عيناه أمام العمود الصحفي فقفزتا متجاوزتين السطر الذي فيه اسمه، إلى السطر التالي الذي ورد فيه اسم الكاتب الثاني، متجاوزاً بفعل هذه القفزة، اللاإرادية، اسم العمل الآخر الخاص بذلك الكاتب!!..
بالنتيجة أمكن تفادي خطأ كان سيقود إليه (بلاغ غير متبصر)، وإنقاذ الصفحة، أو العمود الصحفي من تصحيح ما هو صحيح أصلاً. والصديق من جهته لم يكرر الاتصال للسؤال عما حل بوعد نشر (التنويه والتصحيح)، إما لأنه انتبه بعد أن استفاق من أثر السهرة (العرمرمية) لحقيقة الأمر، فلم يستسغ فكرة سحب البلاغ كما فعل صاحب السيارة الثمل، أو لأنه لم يتذكر أصلاً ما فعله قبل أن يصحو. وبالحالين أمكنني إيجاد العذر له، لما يتصف به من لطف، وطيب قلب، وطرافة، وحسن معشر.. ولكن ماذا عن الذين يفعلون الأمر ذاته، وهم في كامل الصحو؟..
نشرت في هذه الصحيفة قبل أعوام طويلة مقالة على صفحة كاملة عن أحد الصروح المعمارية، وبعد يومين من نشرها فوجئت بأستاذ جامعي وقور يزورني في مكان عملي منتقداً غياب معلومات هامة عنها، وعدّد تلك (المعلومات) الناقصة وكانت جميعها واردة في المقالة بجلاء لا يسمح بأدنى التباس، فلما أوضحت ذلك تلعثم وقال بشيء من الارتباك:
– الحقيقة أني لم أقرأ المقالة.. وإنما قرأت العنوان فقط!!.
ذكرت أنه أستاذ جامعي، وأضيف أنه كاتب وباحث أيضاً، ولن أذكر اسمه قطعاً لأني أحكي عن حالة، ولست أقصد التشهير.
ولكن السؤال: إذا كان رجل بهذه المواصفات، يتعامل هكذا مع نص منشور، فكيف نلوم من هم أقل منه ثقافة ومكانة ومسؤولية؟..
وكيف لنا أن نستغرب وجود جهلة وواهمين ومدعي معرفة يجادلون فيما لم يقرؤوا أو يعرفوا، أو قرؤوا من دون فهم ومعرفة وخاصة بعد أن أتاح لهم الفيسبوك وأنسباؤه وأقرباؤه فسحة غير محدودة للتباهي والتطاول على قامات إبداعية وثقافية بأمل التستر على نقصهم؟.
إضاءات- سعد القاسم