احتفت (أيام الفن التشكيلي السوري) في موسمها الثالث بالذكرى المئوية لولادة نصير شورى (1920- 1992)، أحد أهم الأسماء في الحياة التشكيلية السورية، الذي انتهج درب ميشيل كرشة رائد الاتجاه الانطباعي في الفن التشكيلي السوري، ثم كان بدوره رائداً في أسلوب واتجاه جديد عمّق الهوية المحلية من خلال الالتقاط البارع للمناخ اللوني للخصوصية البيئية، وما لبث أن وجه ذلك المناخ نحو شكل من التجريد، أو الواقعية الاختزالية، ليرتبط هذا الأسلوب باسمه.
تعلم نصير شورى الرسم على يد عبد الحميد عبد ربه في المرحلة الابتدائية، وكان من الفنانين في تلك الفترة بشارة السمرة وتوفيق طارق، ثم أكمل دراسته الثانوية في مكتب عنبر وبرزت موهبته في الرسم على يد جورج بولص خوري خريج المدرسة الوطنية العليا للفنون الزخرفية في باريس. وفي عام 1938 أقام أول معرض للوحاته الزيتية في نادي الضباط بدمشق، وكانت تصور مشاهد دمشقية وطبيعية وطبيعة صامتة ووجوه أليفة.
في عام 1930 تأسس أول تجمع فني سوري في سوق ساروجة حمل اسم نادي الفنون الجميلة، وشارك في تأسيسه رائد التشكيل السوري توفيق طارق، وكان رئيساً لفرع الرسم فيه، إذ ضم النادي فروعاً للموسيقا والتمثيل والتصوير الضوئي. لم يشارك نصير شورى في هذا النادي بحكم صغر سنه يومذاك، إلا أنه شارك في كل التجمعات الفنية التي بدأت بالظهور منذ أواخر الثلاثينات. أقام أول تجمع للفنّانين التشكيليين بينها في غرفة صغيرة خصصت للرسم في دار الموسيقا الوطنية (1936-1940)، التي كان أسسها في دمشق الموسيقي مصطفى الصواف، وكانت نادياً بسيطاً جمع عدداً من الموسيقيين والفنانين التشكيليين الذين يعزفون على آلات موسيقية، فكان نصير يجيد العزف السماعي على آلتي الأكورديون والبانجو، وعبد العزيز نشواتي على الماندولين، وعدنان جباصيني على الإيقاع. وفي عام 1940 انسحب الفنّانون التشكيليُّون من دار الموسيقا الوطنية وأسَّسوا داراً مستقلة أسموها ندوة الأندلس للرسم والأدب (1940-1941) وفي مطلع هذه الفترة (1940) أقيم معرضٌ هامٌ في كلية الحقوق شارك فيه نصير شورى مع مجموعة من الفنانين السوريين والفرنسيين.
جمعت نصير شورى صداقة عميقة مع محمود حماد استمرت طيلة حياتهما، وشاركا سوية عام 1941 بتأسيس مرسم (فيرونيز) في دمشق مع عدد من الفنانين. من بينهم عدنان جباصيني ومحمود جلال وميشيل كرشة ورشاد قصيباتي وعبد الوهاب أبو السعود، وربما كان هذا التجمع التشكيلي هو الأول في تاريخ الحركة التشكيلية السورية.
كان الفنانون في مرسم فيرونيز معلمين للرسم في مدارس دمشق، وينجزون في المرسم دراسات عن الطبيعة الصامتة، والنموذج الحي عن الباعة المتجولين، وعن الشحادين. موجَّهين بتعليمات محمود جلال الفنان الواقعي خرِّيج إيطاليا، وميشيل كرشة الفنان الانطباعي خرِّيج فرنسا، وفي أوقات فراغهم كانوا يصنعون ألعاباً خشبية للأطفال. استضاف المرسم حينذاك بعض الفنانين اللاجئين إلى سورية من أوربا الشرقية، كما كان ملتقى عدد من رجال الصحافة والأدب والموسيقا يتبادلون فيه الرأي ويتحدثون في أمور الفن، ويلتقون فيه بفنانين معروفين أمثال: ميشيل كرشة وعبد الوهاب أبو السعود وسعيد تحسين، وفاتح المدرس وغالب سالم والفرد بخاش من حلب، وسهيل أحدب من حماة، ومصطفى فروخ من بيروت، وخالد الجادر من بغداد، وعبد العزيز درويش من القاهرة. كما كان مرسم فيرونيز مقصداً لعدد من الفنانين الأجانب مثل جوزيف جاريما من بولندا، الذي نظم معرضاً للوحات الفنانين البولونيين في فندق الشرق عام 1944، تعرّف من خلاله الفنانون السوريون على أساليب فنية واتجاهات جديدة لم يألفوها من قبل. ويقول محمود حماد عن هذه التجربة:
«كنت أعمل مع جماعة مرسم فيرونيز التي كانت تضم عدداً من الشباب المتحمس. وكنا في تلك الفترة نتخبط في متاهات التجربة، ونستمد المعرفة من الأمثلة القليلة التي كانت تتوفر لنا في الكتب والمجلات الفنية، والندرة من المعارض التي كانت تصل إلى دمشق، من أهمها معرض الفنانين البولونيين الذي أقيم في فندق الشرق عام 1944 والذي كان يشرف عليه الفنان جوزيف جاريما الذي توطدت بيني وبينه أواصر صداقة قصيرة الأمد، ولكنها مفيدة في الكشف عن تجارب الفن الحديث، وعن مبادئ تأليف اللوحة، وتوازن الأشكال والكتل فيها ومعاني التآلف والتضاد، والتكامل في الألوان، كما كنت أستأنس بآراء الفنانين الذين عادوا من دراستهم في الخارج أمثال محمود جلال وميشيل كرشه، وصلاح الناشف، ونصير شورى. كنت أستوحي في عملي المواضيع التقليدية مثل الوجوه والطبيعة والأحياء القديمة وكنت أتردد بين مفهوم سطحي للانطباعية ومحاكاة ساذجة للواقع. بدون أن يكون لديّ مفاهيم واضحة في الأسلوب والاتجاه، منطلقاً من عفويتي، ومن ذلك القدر الضئيل من الذخيرة الفكرية والمعلومات التقنية التي توفرت لي في ذلك الوقت. كنا نجد صعوبة في توفير المواد والألوان اللازمة لعملنا، فنلجأ إلى الأتربة المستعملة في طلاء الجدران نسحقها بزيت الكتان، ونعبئها بأنابيب قديمة لمعجون الأسنان بعد تنظيفها، وكنا نستعمل الخشب المعاكس لإنجاز اللوحات الصغيرة فنبتاع صناديق الشاي الفارغة ونهيئ قطعها التهيئة اللازمة لعملنا. إلى أن حصلنا على ترخيص (كوتا) من دوائر التموين بكمية من هذا النوع من الخشب، أسوة بالنجارين.»
وللحديث تتمة
إضاءات- سعد القاسم