الثورة أون لاين – ترجمة ميساء وسوف:
منذ حوالي عقد من الزمان بدأت الصين عن عمد ببناء اقتصاد قائم على السلام والتعاون العالمي، وهذه الاستراتيجية التي تنتهجها الصين لم تتأثر مطلقاً بالاعتداءات المستمرة من الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، فهل تكون هذه الطريقة الصينية الثابتة وغير العدوانية للتقدم المستمر واحتضان المزيد من الحلفاء هي التي ساعدت في نجاح الصين على المستوى الدولي؟ إن سياسة التغلب على العنف باللاعنف متأصل في 5000 عام من التاريخ الصيني.
على الرغم من الهجوم المتكرر بلا هوادة من قبل الغرب، فإن هدف الصين ليس غزو العالم أو “الاستيلاء” على مكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى في العالم، على العكس تماماً، يسعى التحالف الصيني- الروسي ومنظمة شنغهاي للتعاون (SCO) إلى عالم متعدد الأقطاب مع مزيد من العدالة للجميع، حيث يستفيد جميع الأطراف بالتساوي.
هذه أيضاً سياسة تنتهجها الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة المُوقّعة مؤخراً، أو RCEP، اتفاقية التجارة التي تضم 15 دولة والتي تم توقيعها في قمة الآسيان السابعة والثلاثين في 11 تشرين الثاني 2020، في فيتنام، وكذلك من قبل مبادرة الحزام والطريق (BRI) التي أطلقها الرئيس الصيني” شي ” نفسه في عام 2013.
الصين لا تجبر أحداً على التعاون معها لكنها تعرض التعاون السلمي، في عام 2014 سافر الرئيس “شي” إلى ألمانيا ليعرض على أنجيلا ميركل بأن تصبح ألمانيا في ذلك الوقت، أقرب رابط غربي لمبادرة الحزام والطريق، أو طريق الحرير الجديد، وكان من الممكن أن يكون هذا بمثابة فرصة لأوروبا بأسرها، ومع ذلك اضطرت السيدة ميركل إلى اتباع تعليمات واشنطن، ولم تستجب لمبادرة الرئيس الصيني، ولكن لم تتأثر الصين وواصلت مسارها المستمر في ربط بلدان الأرض بالبنية التحتية للنقل، والمشاريع الصناعية بين البلدان، ومشاريع التعليم والبحث، فضلاً عن التبادلات الثقافية لإثراء العالم، كل ذلك مع احترام السيادة النقدية والسياسية للدول الفردية.
يعرب العديد من قادة الدول من إفريقيا وجنوب الكرة الأرضية بشكل عام عن رضاهم عن وجود الصين كشريك والتعامل مع الصين على أساس المساواة، ولكن مع الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، هناك دائماً تنمر وإكراه، وعقود غير متكافئة، وغالباً ما يكون هناك عدم احترام تام للعقود القانونية الموقعة.
وفي الوقت نفسه يعيش الغرب في حالة دائمة من النفاق، فهو يهاجم الصين دون أي سبب، بخلاف أن الإمبراطورية الانجلو ساكسونية الأميركية المحتضرة تفوض شركاءها وتشجعهم لمعاداة الصين، وخاصة حلفاء الناتو الأوروبيين، تحت تهديد العقوبات ولسوء الحظ لا تملك أوروبا الضعيفة إلا الامتثال لرغبات واشنطن.
ولكن بالرغم من ذلك يعتمد الغرب كثيراً على الصين في سلاسل التوريد الخاصة به، فقد أظهرت الموجة الأولى من أزمة كوفيد بوضوح مدى اعتماد الغرب على السلع المُنتَجة في الصين من المعدات الإلكترونية المتطورة إلى الأدوية.
مثلاً هناك حوالي 90٪ أو أكثر من المضادات الحيوية أو مكونات المضادات الحيوية مصنوعة في الصين، ونفس النسبة تقريباً تنطبق على الواردات الغربية الحيوية الأخرى، لكن الصين لا تفرض العقوبات، بالعكس فهي تتقدم للأمام وتسعى دائماً لتقديم المساعدة إلى بقية دول العالم.
طورت الصين أيضاً عملة رقمية دولية جديدة مثل الرنمينبي (RMB) أو اليوان والتي قد يتم طرحها قريباً لاستخدام المعاملات النقدية، من جميع الأنواع بما في ذلك التحويلات والتجارة وحتى كعملة احتياطية، ويعتبر اليوان بالفعل عملة احتياطي أقوى من أي وقت مضى، وسيتم تعزيز هذا الاتجاه من خلال RCEP و BRI.
بالطبع تخشى الولايات المتحدة أن تنتهي هيمنتها على الدولار والتي بدأت منذ الحرب العالمية الثانية بأموال” فيات” المدعومة من لا شيء، كعملة تجارية دولية فرضها الكارتل المصرفي الأنجلو أميركي عملياً على العالم، وقد يتراجع وضع الدولار الأميركي كعملة احتياطية بسرعة.
وسيحل اليوان تدريجياً محل الدولار الأميركي كعملة احتياطية، وهذا لأن أمناء الخزانة في البلدان يدركون أن اليوان عملة مستقرة ومدعومة بالذهب، ومدعومة أيضاً باقتصاد قوي، وهذا الاقتصاد الوحيد في العالم الذي سينمو في عام 2020، ربما بنسبة تصل إلى 3.5٪ ، في حين أن الاقتصادات الغربية ستتعثر بشدة.
تم استخدام الدولار الأميركي للسيطرة على نظام التحويل الدولي من خلال SWIFT، على نطاق واسع لمعاقبة الدول التي لا تمتثل للإرادة الأميركية بما في ذلك المصادرة غير القانونية للأصول، حتى الأصول الاحتياطية للبلدان، وأهم مثال على ذلك هي فنزويلا.
الهروب من هذه الهيمنة القسرية للدولار هو حلم العديد من البلدان، لذلك فإن التداول بالعملة الصينية والاستثمار فيها سيكون فرصة مُرحّباً بها للعديد من الدول ذات السيادة.
يمكن تلخيص الإنجازات الاقتصادية الصينية والآفاق التطلعية في برنامجين عالميين: الأول هو اتفاقية التجارة الحرة الموقعة للتو مع 14 دولة (دول الآسيان العشر، بالإضافة إلى اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا)، أما الثاني فيتمثل بالشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة أو RCEP، التي كانت نتيجة مفاوضات لثماني سنوات، وحققت تعاون مجموعة من البلدان من أجل التجارة الحرة، من حوالي 2.2 مليار شخص، وتحكم حوالي 30 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ويُعتبر هذا الاتفاق فريداً من نوعه في القرن الحادي والعشرين من حيث الحجم والقيمة والمدة.
هذا بالإضافة إلى أن الصين وروسيا تتمتعان بشراكة استراتيجية طويلة الأمد، تتضمن عدة اتفاقيات تجارية ثنائية، وقد انضمت إليها دول الاتحاد الاقتصادي لآسيا الوسطى (CAEU)، التي تتكون في الغالب من جمهوريات سوفيتية سابقة تم دمجها أيضاً في هذه التجارة الشرقية.
قد يأتي الكثير من التمويل لمشاريع RCEP و BRI في شكل قروض منخفضة الفائدة من البنك الآسيوي للاستثمار والبنية التحتية الصيني (AIIB) ومصادر التمويل الوطنية الصينية والدول المشاركة الأخرى، كما أنه قد تحتاج العديد من البلدان في الفترة التي ستعقب الخروج من أزمة فيروس كورونا إلى منح مساعدة لتكون قادرة على التعافي بأسرع ما يمكن من خسائرها الاجتماعية والاقتصادية الهائلة التي سببها الوباء، وبهذا المعنى فمن المحتمل أن يدعم طريق الحرير الجديد “طريق الصحة” الخاص عبر القارة الآسيوية.
قد يتم تمويل الكثير من استثمارات البنية التحتية لمبادرة الحزام والطريق، أو طريق الحرير الجديد، بعملات أخرى غير الدولار الأميركي، وقد يصبح الرنمينبي الرقمي الجديد (RMB) أو اليوان الصيني قريباً مناقصة قانونية للمدفوعات والتحويلات الدولية، وسيقلل بشكل كبير من استخدام الدولار الأميركي.
الدولار الأميركي في حالة انخفاض هائل بالفعل. عندما كان حوالي 90٪ من إجمالي الأصول الاحتياطية في جميع أنحاء العالم منذ 20-25 عاماً مُقوّمة بالدولار الأميركي، تقلصت هذه النسبة اليوم إلى أقل من 60٪ ، وما زالت تستمر في الانخفاض، وقد يساهم الرنمينبي / اليوان الدولي الناشئ، جنباً إلى جنب مع الاقتصاد الصيني المعزز من RCEP و BRI ، في إزاحة الدولار، وبالتالي التقليص من الهيمنة الأميركية على العالم، وكما قيل من قبل قد يحل الرنمينبي / اليوان الرقمي الدولي بشكل تدريجي محل الدولار الأميركي، وكذلك احتياطيات اليورو في خزائن الدول حول العالم، وقد يعود الدولار الأميركي في النهاية ليكون مجرد عملة محلية للولايات المتحدة كما ينبغي أن يكون.
في ظل فلسفة الصين، قد يتحول العالم الأحادي إلى عالم متعدد الأقطاب، وتعمل مجموعة الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة RCEP و طريق الحرير الجديد على تحقيق هذا الهدف النبيل بسرعة، وهذا بدوره سيحقق المزيد من التوازن في العالم.
الصين ستمضي قدماً مع شركائها، وتساهم في تجنب العقبات التي تواجهها معظم بلدان العالم سعياً منها لتحقيق هدفها الأساسي، عالم يسوده السلام بمستقبل مشترك مشرق.
المصدر The Saker