من سرعةِ الضَّوء.. ينفلتُ الشّعر ليحتويك

 

الملحق الثقافي:د: عيد صالح *

كيف تكونُ البداية؟.. وكيف أخطو على صراطٍ مشتعل؟.. ومتى وأين، كانت اللحظة الفارقة؟..
هل اختارتنا الكتابة أم اخترناها؟. هل هي هبة السماء أم لعنتها؟.. هل هي شقاء المبدع أم جنَّته؟.. وهل تستطيع بعد رحلة الألف ميل، أن تصف الخطوة الأولى.
ربما على رصيفِ الزمن وخريفه، ينتابك الزهو فتروح تروِّج لأكاذيبٍ عن طفولتك العبقرية، وعن ينابيعك السماوية، وعن إرهاصاتك، وشياطينك، وملائكتك، وسدنتك، وحراسك، في مملكة الشعر التي أنت أميرها وفارسها الذي لا يشقُّ له غبار بيتٍ، أو تتصدَّع له جدران قصيدة.
صغاراً كنا. تلقَّفتنا يد الأزهر الهائلة، تعلِّمنا الحبّ والشعر والكلمات، وعلى ضفَّتي النهر تمدَّدنا بسيقاننا النحيلة، في مياه الفيضان نتقاذفُ الحكايات والأشعار، من «امرؤ القيس» و»المتنبي» و»أبو تمام»، لـ «البؤساء» و»روكامبول». نذرف دموع «المنفلوطي، تحت ظلال الزيزفون»، وننشدُ أشعارَ «سيرانودي دي برجراك» تحت شرفة روكسان.
في معهد دمياط الديني، حفظنا ألفية ابن مالك، وتُهنا في شذور الذهب، وتنقيح الأزهرية الجديد، وأوضح المسالك عالم الجواهر والكنوز.
ليست دمياط المدينة فقط، بل أيضاً «الشبول». قريتي البعيدة، حيث انطلاقات الصباح المدجَّج بالبراءةِ والشقاوة والأريج، وحيث بحيرة المنزلة وأسماكها، وجزرها المتناثرة، ومراكبها الشراعية، وبورسعيد، وبور فؤاد.
كانت تلك الأماكن مهبطي وهواي، وكانت تلك الروح المتمردة الكبيرة، تسكن جسداً ناحلاً، لم يتحقَّق في أيَّة هواية مارسها، من كرةِ القدم والصيد في النهر والبحيرة، ومحاولات التمثيل الفاشلة في فريق التمثيل بمعهد دمياط الديني.
انقطعتُ لفترات عن الكتابة لأسباب كثيرة، لأعاودها فأكتب في الأدب والنقد وأخيراً الشعر، ودون أن أفكّر بطباعة أيِّ ديوان، إلى أن كان:
«قلبي وأشواق الحصار» و»شتاء الأسئلة» و»سعفة من زمن جريح» و»أنشودة الزان» و»خريف المرايا» و»رحيق الهباء» و»سرطان أليف» و»ماذا فعلت بنا يا مارك؟». أخيراً، «ربما في صباح آخر» و»كثيرون مروا من هنا».
مفتونٌ أنا بالصورة، لا باعتبارها كلاً أو مضموناً، ولا لجمالها وظلالها وألوانها، ولكن لأنها جمال الشعر وفتنة القصيدة. لأنها التجسيد الحيّ لما يتجلَّى لحظة الكتابة. الصورة هي الوعاء والثوب والجسد معاً. هي الأعضاء المتحركة في ديناميكية النصِّ الجميل الساحر الغامض.
ربما كنت من أوائل الذين كتبوا المشهدي واليومي والسردي، ولكن بُعدنا عن منافذ النشر، وعزوفنا عنه وإقليميَّتنا، هو ما ألقى بنا في سلة الإهمال والنسيان. ليس بُكاءً ولا ادِّعاء، وليس وقت النفي والإثبات للسبق والتأصيل. سَبقُ من؟.. وتأصيل ماذا؟.. وكل شيءٍ طالته آلة الدمار والعبث.
مفتونٌ أنا أيضاً، بالنصِّ النثري في تجلياته، وبحرّيته التي لا تحدّها أطرٌ أو نمذجة أو تكرار. تلك الكتابة المنطلقة والمنعتقة من أغلال العمود المستهلك، والمحمَّلة بماضٍ لم يعد هنا، وصحراء تعجُّ الآن بناطحاتِ السحاب والحدائق والميادين.
تلك الازدواجية في الشخصية التي تعيش سرعة الضوء، وتختصر العالم والماضي والحاضر، في شاشةٍ بكفِّ اليد، ومع ذلك لا تريد أن تتخلَّى عن أوزان جمعها «الخليل ابن أحمد».
نعم، لا خوف على القصيدة، ولا حدود للكتابة.. لا تخوم أو فواصل أو أقواس، حتى لو كانت أقواس قزح، أو أطياف بورخيس، أو مدن أكتافيو باث، أو لآلئ شيركو بيكه سي، أو عواء ألن جنسبيرغ، أو متاهة ماركيز، أو حرافيش نجيب محفوظ.
أومن بوحدة الفنون التي تداخلت واندمجت، بانشطاراتِ الحداثة وما بعدها، حدّ الإلغاء النوعي، وصولاً للكتابة التي لا تحدَّها أجناس، ولا يحمي شواطئها كهَّان أو حرَّاس.
فقط على المبدع أن يفتح سراديبه وأعطافه وخوابيه، لتنطلق الملائكة، والشياطين، والأطفال، والشيوخ، والهواجس، والأغنيات، والصراخ، والأنين والأحجيات، واللوغاريتمات، وقطارات الموت والحياة، والأمطار، والزلازل، والفيضانات …الخ الخ الخ
ليس للكتابة طقس أو حضور.. ليس للقصيدة مخدعٌ أو سريرٌ.. ليس للإبداع زمانٌ أو مكان. ربما أكتب في الشارع أو في الباص، أو في مقهى أو ركن بنايةٍ مهجور.
مزَّقتُ آلاف القصائد والنصوص، حتى ما نشرته وسلم من بطشي، وتحدَّد في ديوان، أنظر إليه كجريمة اقترفتها ويجب التخلص منه. أحياناً ما تمزقه يكون الأفضل في عيون الآخرين. ربما كان بمشيمته وسائله الأمنيوسي، غضَّاً، فاتناً، جميلاً، حتى قبل الصرخة الأولى.
لا أدَّعي أن الكتابة خلاص أو بديل للجنون والانتحار، ولا أدَّعي أنها للتحقّق والفرادة، ولم تسقط الأيديولوجيات والمقولات الكبيرة كما يدعون. لا أقول بنبوَّة المبدع، ولا بالمدن الفاضلة، ولكنها الأشكال والبنى والأغراض التي تتَّسع لكلِّ ما هو إنساني وجمالي بعيداً عن الفجاجة والابتذال.
أرى أنَّ على الشاعر ألا يكرّر نفسه، وأن يقول شيئاً مختلفاً عن الآخرين أو فليصمت، فالشعر كثيرٌ ومتجاورٌ ومتنوع، والجودة تحكم، والموهبة تؤصِّل.
رغم انحيازي لقصيدة النثر، و»ربما لأنني بدأت حياتي كاتب قصة، وأثَّر ذلك على قصيدتي، بنائياً ودرامياً وسردياً». رغم انحيازي لها، إلا أنني أرى أن عناصر الصورة الشعرية، يجب ألا تتوقف عند التخيل والمجاز مهما كانت الموهبة، ويجب الاستفادة من المنجز الإبداعي في سائر الفنون، من تشكيلٍ ونحتٍ وسردٍ ومسرحٍ وأوبرا وموسيقا، وكلّ ما تداخل معها، حدّ الفوضى الجميلة والتشظي المدهش.
علينا أن نكتب الواقع الإنساني الموازي، الذي تجاوز الخيال، وأن نتلمَّس الجمال في القبح، والكمال في النقص، والنظام في الفوضى، والعبقرية في الجنون، والجنون في التجاوز والاندفاع.
أؤمن أن أجمل قصيدة لم تكتب، وأن النص مفتوح، والنهاية بداية، والبداية شرك ومأزق، كمخاضِ بكرٍ في ولادتها الأولى.
إنه الشعر إذاً.. ذلك الساحر العجيب الغريب، المنفلت، المراوغ وسط جلجلة المشاعر. يحتويك، يصارعك، يصرعك، يشدّك، يزملك، يضمّك بقوة وحنان وجنون واندفاع.
إنه الشعر الأبي، العنيد، الآسر.. الوردة والعصفور والندى. الشلالات والسيول والرياح.. الزوابع والزلازل والبراكين.. الموسيقا والصفاء والهمس.. الوداعة والبريق.. الأشرعة والزوارق والنوارس.. الشواطئ والجداول والجنادل.. الهمس، الصراخ، الرقص، الأنامل، الرحيق، الحريق.
إنه الوطن، الحبيبة، الابن، الأرض، السماء، السحاب، الطيور، الأناشيد، الزغاريد، اندفاع الصباحات، وحكايا الضوء والحياة.
 *كاتب وشاعر مصري

التاريخ: الثلاثاء2-3-2021

رقم العدد :1035

 

آخر الأخبار
الرئيس الأسد يصدر قانون إحداث وزارة “التربية والتعليم” تحل بدلاً من الوزارة المحدثة عام 1944 هل ثمة وجه لاستنجاد نتنياهو بـ "دريفوس"؟ القوات الروسية تدمر معقلاً أوكرانياً في دونيتسك وتسقط 39 مسيرة الاستخبارات الروسية: الأنغلوسكسونيون يدفعون كييف للإرهاب النووي ناريشكين: قاعدة التنف تحولت إلى مصنع لإنتاج المسلحين الخاضعين للغرب الصين رداً على تهديدات ترامب: لا يوجد رابح في الحروب التجارية "ذا انترسبت": يجب محاكمة الولايات المتحدة على جرائمها أفضل عرض سريري بمؤتمر الجمعية الأمريكية للقدم السكرية في لوس أنجلوس لمستشفى دمشق الوزير المنجد: قانون التجارة الداخلية نقطة الانطلاق لتعديل بقية القوانين 7455 طناً الأقطان المستلمة  في محلجي العاصي ومحردة هطولات مطرية متفرقة في أغلب المحافظات إعادة فتح موانئ القطاع الجنوبي موقع "أنتي وور": الهروب إلى الأمام.. حالة "إسرائيل" اليوم السوداني يعلن النتائج الأولية للتعداد العام للسكان في العراق المتحدث باسم الجنائية الدولية: ضرورة تعاون الدول الأعضاء بشأن اعتقال نتنياهو وغالانت 16 قتيلاً جراء الفيضانات والانهيارات الأرضية في سومطرة الأندونيسية الدفاعات الجوية الروسية تسقط 23 مسيرة أوكرانية خسائر كبيرة لكييف في خاركوف الأرصاد الجوية الصينية تصدر إنذاراً لمواجهة العواصف الثلجية النيجر تطلب رسمياً من الاتحاد الأوروبي تغيير سفيره لديها