الملحق الثقافي:موسى حوامدة*
هل من واجبِ الشَّاعر أن يزيِّن الانكسارات، وأن يتوهَّم امتلاك الحرية، فيما يرزح تحت طائلة الخواء والخراب؟. وهل للشِّعر وظيفة أو مهمّة تقتضي أن يكون ساحراً خفيفاً، باعثاً على البهجة والمرح، فيما تتحطَّم القيم والكائنات، وتضيع العبارة من شدَّة الحرجِ لا من اتِّساع الرؤيا؟.
صحيحٌ أنَّ أعذب الشِّعر أكذبه، ولكن هذا ما قاله «الأصمعي» في تكريس التنصُّل من بهاءِ الشِّعر، تأكيداً للموقفِ المعادي للشعراء (الذين يتبعهم الغاوون)، وكلّها محاولات لتفريغِ الشِّعر من حقِّهِ في أن يكون، فنَّاً مكتملاً وحُرَّاً، ومن رغبته في الطيران إلى سماءِ الكلمات، بعيداً عن مقبرةِ التقاليد.
وإذا كان البعض يرى في الشِّعر تطريباً، أو إمتاعاً ومؤانسة للمستمعين، أو مبارزة في سوق عكاظ، فهذا تحقير للمعنى الأخلاقي البعيد للكتابة عموماً، وللشِّعر على وجه الجنون.
كلُّ ما يتحوَّل يذهبُ إلى موته..
الأب بداية، الأم تالياً، الوطن يتلاشى، الغربة تتعمَّق، خساراتٌ تربح كلّ يوم، لا شيء يطلعُ من لا شيء، العدم سيد، والكلمات تبحث عن فنائها، وفيما تنجح الغربان في تجميل الهزائم والانكسارات، لا أجد لديه الشجاعة لتجريب مقولات الأجداد، ومراوغة الحقيقة بأبعد مما تحتمل القصيدة.
أحياناً، لا تحتاج الزوبعة إلى من يذكِّرها بأكوامِ الحطام التي تخلِّفها وراءها، لكنها تتوقَّع دائماً رؤوساً تقف في مواجهتها، تريد المزيد من الضحايا والركام، وحينما تمرُّ دون أن يعترض سبيلها أحد، فلن تحزن كثيراً، لكنَّ الحطام قد يحاول إحياء سدوم، وقد تطلق عناة الكنعانية شقائق النعمان، وتحارب آلهة الموتى بحثاً عن ذَكرها وابنها وحبيبها، وإذا نجحت الأسطورة في إحياءِ الموتى، وزرع الحياة في الأرض العطشى، ونفخ الروح في الأعضاء المتناثرة، فذلك بعيد عن مدارِ القصيدة التي لا تركن فقط إلى حتمية انتصار الخيال الأسطوري.
من هنا، أعلن للزوبعة عن نيَّتي في التعريف بها لا أكثر، وكلّ هذه (المشاغبات) التي قد تصفني بالبطولة، لم تعرف أني أمارس الخجل لا الثورة، وكلّ ما يراه البعض مني اصطداماً أو صَدماً، ما هو إلا تعبير وجودي.. مجرَّد تعبير في وجهِ العاصفة، أو محاولة بسيطة للتعريف بآثارها المحتملة، والقصيدة دائماً تهرب إلى حياة متخيّلة، وحين يفشل المرء في الحفاظ على وطنٍ يحبه، أو على امرأة يعشقها، سوف يرى تضاريس الوطن في الأماكن التي يزورها أو يعيش فيها، وسوف يطلق اسم امرأته على نساءٍ كثيرات، وربما يرى ملامحها أو ابتسامتها أو دمعتها في وجوههن، ويتصورها في مناماته وأحلامه، وكلَّما أدرك أن خسارته حقيقية، تَخفَّى أكثر بحثاً عنها، تماماً كمن يفقد الناي الذي يجيد العزف عليه، فيمضي للسهوبِ والغاباتِ يبحث عن قصبٍ يكون صالحاً لصنعِ نايٍ جديد.
المعضلة هنا أن العازف يختلف عن صانع الناي، كما أنه لا يملك أدوات حادة لاستنطاق الأشجار أو إزالة حزنها العتيق، ولا حتى لإرغام الغابات على دفعِ تعويضاتٍ موسيقية، بدل الناي المفقود، وكلّ ما يقال ويثار يمضي في التيه، يبحث في جدوى التعويضِ وضرورة الإصغاء لأناملِ العازف والحفاظ عليها، ولا يأخذ بعينِ القبَّرات وآذان الصدى مأخذ الجد.
هذا حال الزوابع والعواصف والأعاصير، لكني لا أجيد الاتِّكاء كثيراً على الآخرين، لقد رميتُ من يديّ حتى تلك العصا التاريخية، فلم يعد لي فيها مآرب، بل ألقيتها في حومة النار التي لا تجدِّد مجد السلام على الحطب، لأني واثق أن الناي الذي ضاع أعذب من كل العصي، كما أن تشبُّثي بمجرّد عصا، لن يغنيني عن أغصانِ الأشجار الخضراء، ولا بحّة الناي المجروح.
*شاعر وكاتب فلسطيني
Musa.hawamdeh@gmail.com
التاريخ: الثلاثاء2-3-2021
رقم العدد :1035