يتكرر كثيراً استخدام كلمة (النخبوية) في وصف منجز أدبي أو فني ما، سواء كان الحديث عن منجز أدبي يتخطى القواعد الشائعة في الشعر والمقالة والقصة القصيرة والرواية، أو كان عن منجز فني، في الموسيقا والتشكيل والمسرح والسينما والرقص، يتجاوز الحدود المعرفية الضيقة لمجتمع واسع.
قبل نحو عشر سنوات، فاز برنامج (رواق الفن) التلفزيوني بفضية مهرجان الخليج، فكان هذا الفوز الاستثناء سبباً في طرح جملة من التساؤلات حول برامج الفن التشكيلي وحول الفن التشكيلي عموماً، فهذا البرنامج الذي افتخر التلفزيون بفوزه، كان عرضةً في وقت سابق لانتقاد بعض إدارات الهيئة – كما أشار معده النحات والناقد التشكيلي غازي عانا في لقاء تلفزيوني بعد إعلان الجائزة – حيث أخذت تلك الإدارة على البرنامج (نخبويته) وتوجهه إلى شريحة محدودة من المشاهدين لتثير بذلك أحد الأسئلة الكبيرة حول من يتحمل مسؤولية نخبوية فن ما، خاصة حين ننظر إلى النخبوية وكأنها تهمة تلصق بالعارف ويفلت من وزرها من لا يعرف، وقد حدث ما يشبه هذه الحالة في صحيفة (الثورة) منتصف الثمانينات، حين غادر سورية الراحل خليل صفية الذي كانت الصحيفة تعتمده ناقداً تشكيلياً لها، فناقشت هيئة تحريرها موضوع البديل، ولم يكن الاسم المقترح ينسجم مع مزاج الإدارة، فإذا بأحد أعضائها يقترح إلغاء مواد الفن التشكيلي من الصحيفة بالحجة ذاتها: أنها (نخبوية) وعدد قرائها قليل!!.
استحق (رواق الفنون) الجائزة التي نالها، ويستحق أكثر منها أيضاً، فهو مشغول بحرفية وحب كبيرين وقد قَدَّم بلغة جميلة وصورة راقية معظم التظاهرات التشكيلية في سورية، ومعظم فنانيها التشكيليين، وضمناً الشباب منهم. ومن المصادفات البليغة أن فوز البرنامج تزامن مع لقاء صحفي استضاف فناناً شاباً أشار فيه إلى مسألة (النخبوية) عاقداً مقارنةً بين الفن التشكيلي والموسيقا الكلاسيكية، حيث وجد أن الأخيرة هي فن نخبوي بدورها إلا أنها استطاعت بفضل الاهتمام الرسمي بها أن تكسب عدداً متنامياً من المتابعين لأنشطتها، حتى صار بإمكاننا الحديث عن جمهور للموسيقا الكلاسيكية.
وللحقيقة فإن الفن التشكيلي حظي بدعم رسمي مشابه و واسع، في الفترة ذاتها التي لقيت فيه الموسيقا الكلاسيكية الرعاية. فبلغ الاهتمام بالمعرض السنوي أقصى مداه، وتضاعف، عدة مرات، حجم اقتناء الأعمال الفنية والمبالغ المرصودة لأجل ذلك، وكثرت المعارض الخارجية والمعارض المستضافة. كما صدرت مجلة (الحياة التشكيلية) المتخصصة ومعها العديد من الكتب الفنية، وأسس بينالي المحبة، وشُرِعَ بالخطوات الأولى لإقامة متحف الفن الحديث، حلم الفنانين الدائم، هذا الحراك خلق واقعاً لم يعد ممكناً معه الحديث عن إلغاء المواد التشكيلية من الصفحات الثقافية بأي حجة كانت، وصار لزاماً على الصحافة وغيرها من الجهات الإعلامية أن تترجم حيوية المشهد التشكيلي، وأن تبحث بالتالي عن مهتمين بالفن التشكيلي من بين محرريها أو ضيوفها.
مع ذلك فإن مسؤولية نشر الثقافة التشكيلية لا تقع على عاتق الجهات الثقافية وحدها، فالمؤسسة التعليمية بفروعها كافة تتحمل مسؤولية أساسية في هذا المجال، هي على الأقل مسؤولية محو الأمية الفنية وتحرير الأجيال القادمة من أفكار خاطئة شائعة تعتبر الفن التشكيلي وافداً غريباً على ثقافتنا، فتلتقي من حيث لا تدري- أو تدري – مع نظريات عنصرية غربية تنفي كل مساهمة لنا في التراث الإبداعي الإنساني، وتعتم – لأجل ذلك – على إبداعات تمتد لأكثر من ستة آلاف سنة..
لكن هل ينفي ما سبق المسؤولية الشخصية للأفراد؟ وكيف يمكن تحميل فن كالفن التشكيلي مسؤولية نخبويته وهو المتاح أمام الجميع؟.
إضاءات – سعد القاسم