مع تنامي الظواهر الاجتماعية الجديدة التي برزت إلى سطح العلاقات الإنسانية، وكان السبب في ذلك ما تفتقت عنه التقنيات الحديثة، بدأ الأكثر جِدة منها يعلن عن نفسه وبقوة في سوق مواقع التواصل الاجتماعي من خلال مَنْ أصبحوا يُعرفون باسم المؤثرين.
مؤثرون تتكاثر أعدادهم باستمرار، وباتت شهرتهم تطغى بما يجتذب لها ملايين المتابعين من خلال صور لهم ينشرونها على صفحاتهم، أو أفلام قصيرة لأنشطة حياتية يقومون بها، أو دعايات لمنتجات مختلفة يستخدمونها، أو غير ذلك من هذا القبيل.. ولو ابتكر أحدهم صرعة جديدة لأصبح، وبسرعة البرق، نموذجاً يقلده الكثيرون.
أما المتأثرون فهم أولئك الذين يظلون يدورون في أفلاك النجوم دون أن يصبحوا نجوماً.. والصور، والدعايات الشخصية منها، والعامة، التي تعج بها صفحات المؤثرين تفعل فعلها في الإقناع من قِبل المصدر، والاقتناع من قِبل المتلقي.. والمتأثر يظل متأثراً بما يشاهد، وبما يسمع، وهو على الدوام مخلص في متابعته، ولا سبيل لديه لأن يعيد النظر بعين متجردة ليسأل نفسه: هل كل ما يراه أكيداً، وصحيحاً، ولا يداخله التزييف، أو الكذب؟.. بينما لو أنه نظر بعين محايدة، وسأل سؤاله الصريح لكان فهِم، وعرف، وربما تراجع عن هوس المتابعة لتلك الصفحات التي اجتذبته إليه يوماً، فوقع تحت تأثيرها، وما عاد يستطيع الفكاك منها.
إن واقع الأمر الذي قد يبدو مفاجئاً هو أن أغلب ما يُشارك على صفحات المؤثرين، إن لم يكن كله، قد تم تعديله بكثير من العناية في إطار الهدف منه، أو بالأصح بكثير من (التصنع) في الأداء ليبدو صاحبه من خلاله نجماً حقيقياً يسطع بامتياز بين ملايين البشر.. وإذا ما تسللت الدعاية التجارية إليه ثبُت نجاح تلك الدعاية، ورواج منتجاتها، بل وبطلب متزايد عليها.
هذه الظواهر التي امتدت وتفرعت أصبحت اليوم صناعة لها أدواتها التي تستفيد من البرامج الذكية، ولها صنّاعها، ومَنْ بات يعمل بها، وسوقها التي تلقى رواجاً كبيراً.. فالصور التي تُلتقط للمؤثر لا يجب ألا تؤثر مادامت إمكانات التصحيح، والتعديل، وإضافة اللمسة الجمالية متوفرة إلى جانب العدسة المتطورة التي تصور، والأخرى التي تسجل، لتخرج الصورة في أفضل شكل ممكن لها، ولا يهم عندئذ مصداقيتها، أو أن صاحبها، أو صاحبتها التقطتها وهي على طبيعتها، وبملء عفويتها لأن التعديل كفيل بأن يقنعك بفكرة التلقائية، والعفوية، لتصبح تلك البضاعة المقلَّدة رائجة كما لو أنها الأصل.
أما اصطناع الأجواء وما يتبعها من وجوه مبتسمة، وأجسام صحيحة، وسليمة لا تشوبها شائبة، وأماكن ترف جميلة، وأساليب عيش مدنية وعصرية كما في الأحلام، فكل ذلك هو من مستلزمات التسويق، والترويج، على خطى الدعايات، إلا أنها الدعاية لأفراد أصبحوا يؤثرون في المجتمعات، ويروجون لأفكار جديدة وليس لمنتجات، وبضائع تدخل إلى سوق الاستهلاك.
إلا أنها سوق استهلاك واحدة على أي حال تباع فيها وتشترى السلع، ولو كانت مزيفة إلى جانب المشاعر، والأحاسيس التي تقع في دائرة الجذب.. والمنصات الحاضنة ترحب، وتسعى لاستقطاب المزيد من الأفراد إليها طالما أن صناعتها ناجحة، وبضاعتها رائجة، وهي تغدق عليها مزيد المزيد من الأموال، ولسان حالها يقول كما قال الشاعر قديماً:
وحاشاكم من أن تخيس بضائعي لديكم بما تنمي البضائع للتُجر
ومادامت الآفاق مفتوحة عبر المواقع الإلكترونية للترويج للأفراد، والأفكار كما هو الحال بالنسبة للأشياء فلماذا لا تنمو ظاهرة المؤثرين كما يُشتهى لها أن تفعل، حتى ولو كان (ليس كل ما يبرق ذهباً).. وأن (التصنع) قد أصبح صناعة يتقنها مَنْ يعمل بها، فينافس، وقد يبالغ، ولكنه في محيطه هو الفائز، ولا يهم عندئذ إن كان حقيقياً، أو مصطنعاً.
(إضاءات) ـ لينـــــا كيــــــلاني ـ