الثورة أون لاين – عبد الحليم سعود:
رغم مرور ستة عقود على انتصار الثورة الجزائرية وانتهاء حقبة الاحتلال الفرنسي البغيض للجزائر لم تغادر باريس عقليتها الاستعمارية، ولم تخرج من متاهات وزواريب هذه الحقبة المريرة إلى فضاءات الاعتذار عن جريمة الاحتلال الطويلة لبلد المليوني شهيد، إذ ما زالت باريس تعتبر الجزائر جزءاً من ممتلكاتها المسروقة، وكلما حانت الفرصة لطي هذه الحقبة المؤلمة والتطلع للمستقبل برؤى وأفكار جديدة تعكس التكافؤ والتعادل بينهما كدولتين مستقلتين ذات سيادة، صدر عن باريس مواقف وتصرفات تؤزم العلاقات بين البلدين، حيث ساهمت انتقادات الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون الأخيرة للنظام السياسي في الجزائر وللجزائريين بأزمة جديدة توقع لها الكثير من المتابعين والمحللين السياسيين أن تطول متسببة بتداعيات غير محسوبة.
فبعد تصريحات ماكرون المسيئة للجزائر ونظامها السياسي والتي رأى فيها البعض مجرد دعاية انتخابية لإرضاء اليمين الفرنسي المتطرف، دخلت العلاقات بين باريس والجزائر مرحلة جديدة من الاضطراب مع استدعاء السفير الجزائري في باريس، وإغلاق المجال الجوي الجزائري في وجه الطائرات العسكرية الفرنسية، ومن الممكن في ظل الوضع الحرج الذي تمر به فرنسا اقتصادياً بعد الطعنة التي تلقتها من واشنطن بخصوص صفقة الغواصات الاسترالية أن يستغل ماكرون الأزمة مع الجزائر لحرف أنظار الفرنسيين بعيداً عن الخسارة الاقتصادية المؤلمة التي لحقت ببلدهم جراء الغدر الأميركي، وعجز ماكرون عن رد الاعتبار.
في المقابل يرى الخبير الجزائري في شؤون الهجرة حسن قاسمي أن تصريحات ماكرون انتخابية، وأضاف أن “السياسيين في فرنسا (يتواجدون الآن) في خضم الحملة الانتخابية”، وربط ذلك بـطغيان الخطاب اليميني المتطرف على الأجواء” في فرنسا، موضحاً بأن “العلاقات بين فرنسا والجزائر لم تخرج أبداً عن المنظور العنصري الذي يتعامل به الفرنسيون تجاه الجزائريين”.
ويحذو حذوه الدبلوماسي والوزير الجزائري السابق عبد العزيز الرهابي، فيرى أيضاً أن تصريحات ماكرون ذات بعد أو هدف انتخابي، معتبراً أنه في السنوات الأربع الأولى من ولاية أي رئيس فرنسي يتم النظر إلى الجزائر كشريك أمني، ولكن سرعان ما تتحول إلى فزّاعة في العام الأخير” من الولاية.
وفي السياق ذاته اعتبر مدير “مركز الدراسات والأبحاث حول العالم العربي ودول المتوسط” (سيرمام) في جنيف حسني عبيدي، أن تقرير المؤرخ الفرنسي بنجامان ستورا الذي قدمه إلى الرئيس الفرنسي في كانون الثاني الماضي ساهم بتصعيد التوتر بين البلدين، حيث رفضته الجزائر ووصفته بأنه “غير موضوعي” منتقدة عدم “اعتراف فرنسا رسمياً بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي اقترفتها خلال احتلالها للجزائر”. ويؤكد عبيدي أن تصريحات ماكرون الأخيرة “لا تسيء فقط للسلطات الجزائرية ولكن من شأنها أيضا أن تسيء لجزء كبير من الجزائريين”.
وكانت صحيفة لوموند الفرنسية نقلت عن ماكرون الخميس الماضي قوله: “إن الجزائر قامت بعد استقلالها عام 1962 على “ريع الذاكرة” كرسه “النظام السياسي-العسكري”، وشكك في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي، وهي محاولة بائسة لتحسين صورة الاحتلال الفرنسي البشعة لبلد ضحى أبناؤه بمليوني شهيد من أجل استقلاله، في حين ما زال السياسيون الفرنسيون يرفضون الاعتراف بجرائمهم الحاقدة بحق الجزائريين ولا يعتذرون عن حقبة الاستعمار البغيضة، كمقدمة لمصالحة حقيقية بين الدولتين تطوي هذه الصفحة الأليمة من تاريخ الجزائر.
ومن الملاحظ أن هناك حرصاً فرنسياً على إبقاء هذا الجرح مفتوحاً حيث سبق أن شهدت العلاقات الفرنسية الجزائرية أزمات عديدة في العقدين الماضيين، ففي 23 شباط 2005 عندما أقر البرلمان الفرنسي قانوناً يعترف بـ”الدور الإيجابي للاستعمار”، وقد تسبب هذا القانون بإبطال معاهدة الصداقة التي وقعها الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك ونظيره الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة، ورغم إلغاء القانون لاحقاً، إلا أن العلاقات بين الدولتين شهدت خضات أخرى، ففي أيار عام 2020، استدعت الجزائر سفيرها صلاح البديوي على أثر بثّ فيلم وثائقي حول الحراك المناهض للحكومة في الجزائر على قناتين فرنسيتين رسميتين.
وفي نيسان الماضي، ألغى رئيس الوزراء الفرنسي جان كاستيكس في اللحظة الأخيرة زيارةً له إلى الجزائر بطلب منها، بسبب استياء الجزائر من حجم الوفد الوزاري الفرنسي.
وقد أدانت الطبقة السياسية في الجزائر بالإجماع انتقادات ماكرون للسلطات الجزائرية، واعتبر رئيس حركة مجتمع السلم (حمس) عبد الرزاق مقري التصريحات بمثابة “إعلان حرب على الجزائر دولة وشعباً.
وانتشر على مواقع التواصل الاجتماعي وسم يدعو إلى طرد السفير الفرنسي في الجزائر، وقد صار من أكثر الوسوم انتشاراً بين مستخدمي الإنترنت الجزائريين على تويتر منذ الأحد الماضي.
ويرى مراقبون أنه من الممكن أن تتأثر الجالية الجزائرية في فرنسا بهذه الأزمة ولاسيما أن تعدادها يتجاوز المليونين، وقد تجد نفسها ممزقة بين الدولتين، ومع توقع الكثيرين أن تطول الأزمة ثمة من يعتقد أن ماكرون قد حرق مراكب المصالحة المنتظرة بين باريس والجزائر، وعمَّق جذور الخلاف بينهما، وما لم يسقط في الانتخابات القادمة وهو أمر مرجح فقد تستمر الأزمة طيلة ولايته القادمة