الثورة – أديب مخزوم:
يمكن اعتبار معرض الفنان التشكيلي إدوار شهدا، الذي افتتح في صالة كامل للفنون الجميلة، متضمناً تسع لوحات بقياسات جدارية (كل لوحة تتألف من عدة أقسام)، أحد أهم المعارض التي أقيمت في هذا الموسم، لأنه يحمل خلاصة وثمرة أكثر من نصف قرن من البحث التشكيلي والتقني، فهو فنان متمكن ويمتلك قدرة مطلقة على الاختزال والتحوير والإضافة، في خطوات دمج عناصر الطبيعية والبيوت والطيور والقطط وكل ما يمكن أن يخدم لوحته المغرقة في عفويتها وحداثتها.
هكذا تتميز لوحاته بمناخها البصري العفوي، رغم بروز المساحات الهندسية التي تحدد عناصر العمارة (مثلثات ومربعات ومستطيلات ودوائر وغيرها)، فهو يعمل على إبراز اللمسات اللونية بالأداء التلقائي، المعبر عن حركة وحيوية المشاهد والرموز المستعادة من الذاكرة وليس من الجلسة المباشرة، كل ذلك بصياغة فنية حديثة، تسير في إطار وهاجس واحد، هو إعطاء أهمية للرسم الخيالي والرمزي والأسطوري الموزون والمدروس على الصعيدين التكويني والتلويني، مع إضفاء المساحات اللونية الصافية المتجاورة والمتتابعة والمتداخلة للوصول إلى مناخ الصياغة الحديثة، التي تستفيد من التعبيرية في التركيز على العفوية اللونية والاختزال والتحوير، وأيضاً تستفيد من معظم المدارس الفنية الحديثة، وخاصة التكعيبية في معالجة بعض العناصر الإنسانية، وبالتالي فهو يستفيد من كل مشاهداته وثقافته وتأملاته. وبذلك يبتعد كل البعد عن تقليدية الأداء الواقعي، في كل مقطع من مقاطع اللوحة، ويتجه نحو مظهر الاستفادة من جوهر الفنون الحديثة وروحها المتجددة، في تعاطيه مع اللمسة العفوية المشحونة بالانفعال، كمدخل للكشف عن عوالم الشاعرية اللونية والضوئية، فقد استطاع خلال سنوات تجربته الطويلة والرائدة، أن يكتسب صفة الأستاذ والمعلم لأجيال من الفنانين، فهو يمتلك قدرة مطلقة على كشف أسرار التقنيات اللونية، وإظهار قدرته في تحريك الموضوعات المختلفة ودمجها والتعبير عنها بطريقة بانورامية، للوصول إلى اللوحة الفنية الخاصة والمتفردة، في تجلياتها الجديدة، وهذا المظهر العفوي في التعاطي مع الموضوعات واللمسة اللونية، يتخذه كمدخل لبناء لوحة محلية، فيها الكثير من الأجواء الإيقونية، والعناصر المعمارية القادمة من رؤية أبواب ونوافذ وقناطر وأقواس العمارة المحلية القديمة.
هكذا يمكن أن تشكل لوحات إدوار شهدا الجديدة، بمعناها البصري كلون وضوء وتكاوين أمكنة، مدخلاً لرؤية خصوصيات العمارة المحلية القديمة، والمشاهد المستعادة من الذاكرة، والنور الشرقي وتدرجات اللون، المنفتح على الشمس الساطعة في الأمكنة الحميمية الباقية بين القلب والذاكرة.
فهو يتابع خطوات التعبير التلقائي، في إبراز حركة وحيوية المنظر الطبيعي، وهناك مشاهد التقطها أو استعادها من ترسبات مخزون ذاكرته البصرية، دون أن تفقد علاقتها بعوالم النور والوهج والشاعرية التي تسكن الداخل، حيث جسد عوالم وأمكنة متنوعة مستشفة من الواقع والذاكرة.
ولا شك بأن العرض في هذه المرحلة يبدو وكأنه محاولة للانفلات من قلق حياتنا الراهنة، وسوداوية واقعنا المأساوي، في أزمنة الحروب المستمرة في عمق حياتنا اليومية، دون توقف أو انقطاع. إنها محاولة للخروج من شرنقة الأحزان التي تعترينا في كل لحظة، وبذات الوقت محاولة لنشر الفرح في أعين المشاهدين، في أزمنة الهجرات والحروب والويلات المتعاقبة، بفتراتها المضطربة والمتوترة والمغمورة بالأحزان والتطلعات الشاحبة.
هناك نوع من السحر في أحياء المدينة القديمة يصعب وصفه، لذلك فهو يغوص في معالم الأوابد الحضارية، ويرسمها بطريقته الخاصة، وبعشق مزمن، ومن كل النقاط والزوايا، حتى أنه يبحث وبشكل دائم عن زوايا نادرة، منها يرى الحي أو البيت أو الطبيعة، وفي جميع الحالات يعيد تشكيل المشهد بالعين الداخلية، ولهذا نراه يتحاور مع الموضوع بشكل خيالي وعفوي.
ولوحات إدوار شهدا الجديدة تجنح نحو المزيد من الاختصار والاختزال والتبسيط وبلغة تعبيرية تنحرف باتجاه الرمزية أحياناً، خصوصاً عندما يجعل الأشكال الإنسانية سابحة في الفضاء لتغدو تعبيراً عن هواجس روحانية.
فالعمل الفني بالنسبة إليه، يعني الشعور بنشوة التشكيل الذي يحرك الهواجس والرموز والمواد التلوينية، بغية الوصول إلى إيقاعات جديدة تدخل السعادة إلى قلبه المفعم بالتعطش لاكتشاف الأشياء.
وجداريات معرضه الجديد شكلت جميعها امتداداً لأعماله السابقة، فهو لا يزال يسير على الخط الذي اكتشفه في سنوات عمله الطويلة، فهي لوحات تحمل قبل أي شيء آخر نغم اللون وعفوية اللمسة.
ففي هذه الأعمال يعود أدوار إلى ذاته، إلى الأشياء الأليفة التي تملأ حياته وتشبع حاجاته التعبيرية واستمتاعه الجمالي، وتذوقه لعفوية الألوان وتلقائية الخطوط في خطوات كشف الغطاء عن وحدة النسيج الأسلوبي.
الاتجاه التشكيلي الصرف في معالجة الموضوع الأدبي التراثي، يظهر من خلال انفعالات اللون الحديث والوهج الضوئي واختصار العناصر والأشكال الإنسانية والحيوانية والنباتية، والاهتمام بهاجس كسر النسب والمقاييس الصحيحة، أكثر من الاهتمام بإبراز دقة الأشياء وأناقتها الواقعية والصالونية.
هكذا يبرز الوهج الضوئي الذي يبهر العين في أحيان كثيرة خارجاً عن المألوف والواقع. وفي عودته إلى ينابيع الميثولوجيا والقصة الشعبية الأسطورية يتمسك بالرموز بشكل دائم، والمرأة المجسدة في لوحاته تظهر كوسيلة لإبراز قدراته التعبيرية والجمالية المرتبطة بفنون العصر، وهي قبل أي شيء تعطيه حافز العودة إلى البحث التشكيلي المعبر عن موقفه من التراث والحياة والفن والحداثة.
إدوار شهدا من مواليد دمشق العام 1952، ومن الفنانين الموهوبين القادمين من محترفات كلية الفنون الجميلة في العام 1976، والمتابعين للدراسة الأكاديمية في محترف الفنان الروسي أناتولي كلانكوف، ولقد عرفته الأوساط الفنية والثقافية من خلال معارضه المنفردة التي أقامها منذ مطلع الثمانينات، إضافة إلى مشاركاته الدائمة والمتواصلة في المعارض الجماعية الرسمية والخاصة التي أقيمت في الداخل والخارج. ولقد لفت الأنظار إليه منذر مطلع الثمانينيات بقدرته، على التقاط حركة الأشكال الإنسانية عبر اعتماد طريقة الرسم الواقعي بتقنية متفوقة استطاع من خلالها إغراء العين والقلب معاً.