مع بداية العام الجديد، ومع أول خيوطه انتعش الحديث مجدداً عن عالم الوهم الجديد الذي أعلنوا عنه مؤخراً بكثير من الحماسة تحت اسم (ميتا فيرس)، والذي يترقب بشراسة غزو حياة البشر بما قد نتوقعه، وما لا نتوقعه إذا ما كانت إثارة الدخول إليه أقوى من أن يسحب المرء نفسه خارجه، أو أن ينصرف عنه.. ومَنْ يسمع لن يستطيع أن يقاوم إلا أن يرى بأم عينه، فمن رأى ليس كمَنْ سمع كما يقولون، ولا أن يُحرم من خوض تجربة لها مذاق مختلف جداً، ولو أن من الألعاب الإلكترونية ما يشبهها، وفي مدن التسلية الغربية كمدينة (ديزني)، واستوديوهات (يونيفيرسال) ما يشبهها أيضاً من العوالم ثلاثية الأبعاد، إلا أن هذا الابتكار القادم يعِد بما هو متفرد في آفاقه، وفي مجالات استخدامه.
أما عن إمكانات هذا المتفرد المتطور فحدِّث ولا حرج.. إقطاعات من مساحات المواقع الإلكترونية تُباع وتُشترى حسب الهوى.. وأشكال لأناس يدخلون إلى (ميتا فيرس) يشكلونها حسبما يشتهون، ويحبون.. وحقول للعمل تنفتح على كل الاختصاصات بما فيها الإبداع الأدبي، والفني، وغير ذلك كثير مما قد لا يخطر على البال.. والذكاء الصناعي من خلال هذه التقنية المستجدة يسعف بمزيد المزيد من الابتكار، وكما لم يسبق له من قبل.
يقول علماء الاجتماع أننا لو وضعنا أمام (قرد) آلة طابعة ليضغط فوق أزرارها وهي تكتب حروفاً فمهما طال الزمن به وهو يلهو بها لن تصدر عنه أي جملة مفيدة مفهومة كما يفعل البشر.. لكن الذكاء الصناعي يفعل.. وبعد أن تطور بما لم يعد يقاس أصبح بإمكانه أن يؤلف قصة، أو رواية، وأن ينظم الشعر، وأن يرسم اللوحات الفنية أيضاً، وفق برامج ذكية تختزنها ذاكرته الحديدية بمساحاتها التي أصبحت شبه لانهائية، ومن ورائها فضاء لنشرها على العلن.. فضاء (ميتا فيرس) الرحب الذي يستوعب من خلال منصاته كل المواهب.. قد نستغرب هذا الذي يعلنون عنه، أو نستنكره لكنه في حقيقة أمره سيصبح واقعاً تخدمه أدواته.. وإذا ما حصل أحد على التجربة، كما البراعة في هذه الاستخدامات قفز بمساعدتها إلى عتبات أعلى من الإنجاز.
لاشك أن هذه العوالم الجديدة التي تدعونا لأن ندخل إليها هي ذاتها من فضاءات الإبداع البشري الذي تنضوي تحت جناحه إبداعات شتى في مجالات متنوعة لا سبيل لحصرها، وهي بدورها تلهم لمزيد منها، ولِما هو من جنسها حتى لا يعود لِما هو من دونها وزنه الذي كان له.
وإذا كان المبدع يصب نزيف قلبه حبراً في قلمه، أو خطاً، ولوناً في ريشته، أو لحناً تعزفه آلته، فكيف إذن يمكن لما هو صناعي، ولو كان ذكاءً، أن يتحسس نبض القلوب، أو نزيفها ليستحضرها في نص إبداعي، أو لوحة فنية، أو نوتة موسيقية؟.. هذا هو السؤال الذي يقفز إلى الأذهان إذا ما توفرت هذه البرامج، والأدوات الذكية، وأصبحت متاحة لكل أحد، وكل مَنْ يحلم بأن يصبح كاتباً، أو شاعراً، أو حتى ناقداً، أو رساماً، أو موسيقياً.
ولكن.. ماذا سيفعل لصوص الكلمة الذين يسطون على ما ليس لهم، وينسبونه إلى أنفسهم إذا ما اصطادتهم برامج الذكاء الصناعي التي توفرها هذه المنصات الجديدة ببرامجها المتفوقة، وتعرَّفت بالتالي على نصوصهم على أنها مسروقة من إبداعات الغير؟ عندئذ سيقعون في حيرة من أمرهم.. هل يستعيرون موهبة من غيرهم، أم يستأجرون برنامجاً متطوراً يستطيع أن يسعف الأحلام بنص إبداعي يُكتب له الفوز ولو كان كاذباً مادامت مثل هذه البرامج ستتوفر في خدمة الفنون جميعاً؟.
كل هذا وارد، ومتوقع مع انطلاق منصات (ميتا فيرس).. إلا أننا لاشك إذا ما تبعنا نبض القلب الذي تهتز له مشاعرنا، وأحاسيسنا، استطعنا دون جهد أن نفرِّق بين ما هو صناعي، وما هو بشري.. بين ما هو زائف، وما هو أصيل من فطرتنا، وطبيعة موهبتنا البشرية.. فلتفعل التكنولوجيا ما يحلو لها وهي في المحصلة مرهونة بالإبداع البشري في كل مساراته، ومستوياته، ولو تعرَّض للخطر.
* * *ـ لينـــــا كيـــــــلاني ـ (إضاءات)