في زمن تزدهر فيه التجارة عن قرب، وعن بعد بدرجة أكبر.. وتنشط فيه عمليات البيع، والشراء بين العرض والطلب ازدهرت صناعات كثيرة، وتوسعت آفاقها مادام وصول المستهلك لها أصبح متاحاً، وبيسر، وسهولة في أي مكان من
العالم.
وها هي الآلة المتطورة تدخل بقوة إلى السوق التجاري في مراحل جديدة من خدمتها تتجاوز فيها عملية التصنيع لتصبح خادمة في مجال إيصال السلع إلى مستهلكيها.. والناس بعد أن مكثوا في بيوتهم بسبب الجائحة خوفاً من الاختلاط بالغير أصبح أمر التسوق عبر المواقع الإلكترونية أكثر طلباً من قبلهم لأنه الأكثر أماناً، وحفاظاً على صحة المستهلكين.. واعتاد الناس في الوقت نفسه على التعامل مع طائرات مسيّرة، وخدم آليين يوصلون الطلبات إلى أبواب البيوت.
أما الشركات التي تصنِّع الآليين أو (الروبوتات) فقد أخذت على عاتقها مسؤولية اختيار آليين بوجوه بشرية يجذبون الزبائن، ولا ينفرونهم، ولا يجعلونهم يتعاملون بحذر مع قطعٍ معدنية مبرمجةٍ ضمن مهام محددة.. وحتى يكون التعامل ودوداً، ومسلياً، ومشجعاً على فكرة الشراء فقد أعلنت إحدى شركات تصنيع (الروبوتات) عن حاجتها لوجه بشري مريح تعتمده وجهاً لآلتها الذكية.. والإعلان لا يخلو من إغراء مالي كبير لكل من يُقبل على أن يدخل الرهان.. والشرط الرئيس في بيع ملامح الوجه الفائز هو أن لا يطالب صاحبه باسترداد وجهه فيما بعد.. بيع قطعي لا رجوع فيه لصورة وجه بشري يلبسه آلي له مظهر إنسان كامل.
وخلال فترة قصيرة من الوقت انهالت على الشركة ألوف الطلبات ممن أعجبتهم فكرة أن تُعتمد صور وجوههم كنموذج، ولا يشترط في هذه الحال الجمال كشرط للقبول وإنما هو أي وجه ما يبعث على راحة النفس عند النظر إلى ملامحه التي تحمل الطيبة، والبراءة.. والصفقة في كل الأحوال رابحة سواء عُرف اسم صاحب الوجه المباع فيشتهر، أم لم يُعرف من بين الأعداد اللامتناهية لوجوه البشر مادامت الثروة بالمقابل بانتظاره.
ومن خلال الأوضاع المضطربة في العالم من نزاعات، وصراعات، وأطماع بلا حدود، فمن الناس مَنْ اعتادوا أن يُلبسوا وجوههم أقنعة شفافة من البراءة، والطيبة، والصدق، وهي تخفي ما تحتها من ملامح الزيف، والخداع، والغش.. شأنهم في أطماعهم شأن الآلة التي لا ترى بعدسة عينها سوى الطريق التي توصلها إلى هدفها، وهي لا تدري أنها إنما تغيّر من سلوك البشر بما يتناسب مع وجودها بينهم.
فهل الأقنعة التي تحمل ملامح الوجوه البشرية إذا ما اكتسبتها الآلات الذكية كفيلة بإقناعنا أننا مازلنا أحراراً، ولم تستعبدنا الآلة التي لم يكن ينقصها إلا أن تظهر بمظهر بشري يشبهنا حتى يكتمل الأمر فنألفها كما لو أنها من جنسنا، وهي تتودد إلينا بابتسامة مصطنعة، يصدر من ورائها صوت معدني يطلق عبارة مفتعلة من شكر، أو ترحيب؟.
وإذا ما انتشرت الآلات التي تتشابه في ملامحها معنا في طرقاتنا، وأسواقنا، ووسائل النقل، وفي بيوتنا لتقوم بأعباء نتذمر منها عادة فهل سنقابلها بعبارات الامتنان، ونحن نسعى إلى تطويرها باستمرار لتقوم بمهام أكبر، وأكثر صعوبة بينما تترهل أجسامنا إذ لا نحرك منها سوى أصابعنا فوق لوحاتٍ للأزرار، وتنشط العقول باستخدام الذكاء لتستدق الأصابع، ويكبر حجم الرؤوس فتتحول أشكالنا لتصبح كما لو أننا مخلوقات فضائية قادمة إلى الكرة الأرضية!.
وسواء بيعت الوجوه لتصبح أقنعة، أو لبست الوجوه أقنعة لتخفي ملامحها الحقيقية ستظل المفاجأة تحكم منطق البيع والشراء، والربح والخسارة..
ترى هل سيعتاد أحدنا على أن يبيع وجهه إذا ما اعتاد أن يلبس أقنعة متبدلة لألوان من السلوك تخفي تحتها ما يخبئه الضمير والوجدان؟.
(إضاءات) ـ لينـــــا كيـــــــلاني ـ