بات العالم معتاداً على قبول متغيرات دولية كل صباح، بل وكل دقيقة، ففي كل نقطة من العالم ثمة بؤرة توتر وأخرى ساكنة تحت رماد جمر يشتعل، فواشنطن الموعودة بالسيطرة الكاملة على العالم تعيش حالة الفجيعة الكبرى وهي ترى حلمها المنشود في أن يكون القرن الحادي والعشرين قرناً أميركياً يتهاوى وينهار وينذر بكوارث تفوق حد انهيار الحلم، فهذه الإمبراطورية الغاشمة التي امتلكت أكبر قوة عسكرية على امتداد التاريخ بنت سياستها ورسمت استراتيجيتها على مبدأ السيطرة الكاملة على مقدرات الشعوب وأراضيها وجغرافيتها كلها، ولم تضع في حسبانها وجود أي قوة يمكن أن تحول دون تحقيق ذلك الهدف .
لقد كانت الولايات المتحدة الأميركية وحدها صاحبة المواقف العدوانية الدولية في الفترة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي وإن شاركت واستضافت اجتماعات تشكيل وتأسيس هيئة الأمم المتحدة ، فإنها كانت الدولة الأكثر خرقاً لميثاق المنظمة الدولية، والدولة التي استخدمت القوة الغاشمة بعيداً عن القانون الدولي والأعراف والمعاهدات الدولية، لتحصد في النهاية خسارات متتالية رغم تلك القوة غير المسبوقة في التاريخ، فهي قد هزمت في فيتنام وقبلها في الكوريتين وبعدها في كوبا وأميركا الجنوبية وأفغانستان ليكون العراق مستنقعها الصعب الذي لم تستطع الخروج من تبعاته حتى الآن، وما زالت مستمرة في صلفها وعدوانها في سورية دون بوادر أمل بتغيير سياستها أو إجراء مراجعة تأخذ بالحسبان المتغيرات في ميزان القوى الدولية المستجدة وانزياح شكل التحالفات العالمية في القرن الأخير.
بالطبع هذا الحديث لا يعني أن الإمبراطورية الأميركية آيلة إلى الزوال بين عشية وضحاها، لكنها المقدمات العملية للسقوط والنهاية، فما الذي يعنيه عدم قدرة أكبر قوة في العالم على فرض رؤيتها في العلاقات الدولية إلا أن تكون ذاتها خارقة ومارقة ومعطلة وغاشمة ومتسلطة وغير ملتزمة بالقوانين والمعاهدات التي صاغت تلك القوانين وسنت موادها وتفاصيلها على مبدأ السيادة وعدم التدخل واحترام الخيارات الوطنية، الأمر الذي يجعل من الإدارة الأميركية جهازاً إدارياً يعيش خارج معطيات الواقع الجديد، وبذلك تكون مقدمات الفناء الذاتي بصورة تستعيد انقراض الديناصورات بطريقة دراماتيكية لم تفد معها القوة الجبارة.
ولعل الجانب الذي يغيب أحياناً عن بال الباحثين والسياسيين ذلك التكرار في السلوك الأميركي المستهجن وهو استخدام القوة المفرطة والترسانة العسكرية ذات التكنولوجيا المتطورة وعالية الدقة في مهاجمة دول صغيرة أو ضعيفة ولا تمتلك القوة الموازية للقوة الأميركية، لتكون النتيجة الفشل الأميركي فيها، ولنا في الحدث الأفغاني خير دليل مشهود يستعيد الهزيمة الأميركية الكبيرة في فيتنام بداية سبعينيات القرن الماضي.
هذه النماذج تقدم دلائل على التراجع الأميركي مقابل القوى الصاعدة المتمسكة بميثاق الأمم المتحدة والداعية إلى احترام القانون الدولي، في الوقت الذي تمتلك فيه القوة المتزايدة والقادرة على ردع الغطرسة الأميركية.
وفي تجربتنا السورية مع الولايات المتحدة الأميركية لا يختلف الأمر عن علاقاتها بدول أخرى، فإما أن تكون التبعية التامة ، وإما أن يكون العداء والحصار والتهديدات المستمرة، ولكل حالة ضريبة وثمن ونتيجة تمثل عوامل الربح والخسران، والغريب في هذا المجال أن تكون نتائج العداوة أقل ضرراً من التبعية والمهادنة، ولعل ما نراه في المناطق التي تتواجد فيها القوات الأميركية بصورة غير مشروعة يؤكد هذه الرؤية المتمثلة في حالة الرفض الشعبي لذلك الوجود البدء بتشكيل مقاومة وطنية تقوم بعمليات بطولية تؤرق تلك القوة الغاشمة، وهي ستجبرها في النهاية على الانسحاب كما هي العادة في كل اعتداءاتها.