الثورة ـ أديب مخزوم
ظهر التأثير المباشر لحرب تشرين التحريرية، على الفن التشكيلي السوري، منذ لحظاتها الأولى، حيث تحولت صالة الشعب للفنون الجميلة، ومحترفات بعض الفنانين، إلى ورشات عمل متواصل ، وبعض الفنانين ساهموا في إنجاز العديد من الجداريات في الهواء الطلق، وإعداد الملصقات الفنية، التي تمجد الجندي السوري، وقدرته على دحر العدوان وتحقيق النصر وإستعادة الحقوق ، والتبشير بولادة جديدة.
والتشكيل السوري الذي ساهم في التعبير عن أحلام تشرين وطمح لمسايرة وهجها، كان يهدف إلى إشاعة الأمل، وتذليل الصعاب، ولقد جنحت أعمال فنانينا في الرسم والنحت والحفر، في اتجاهها الواقعي والتعبيري والرمزي، نحو الاختزال والتبسيط والتحوير بهدف الوصول إلى الإيحاء المطلوب الذي تؤديه لمسات اللون الكثيف ودرجاته المتفاوتة على سطح اللوحة، الشيء الذي يؤكد الهاجس الفني لدى الفنان في الوصول إلى تشكيل البعد والعمق الملتزم بقضايا شعب ونضال أمة ، وبعبارة أخرى الفنان السوري في تعبيره عن يوميات الحرب لم يقدم تنازلات فنية، بل حافظ على خصوصيته الإسلوبية وخطه التصاعدي في خطوات رسم الموضوعات المرتبطة بالمعركة.
وثمة مسافة شاسعة جداً بين رؤية اللون والتكوين والخط والتقنية والأسلوب من وجهة نظر تشكيلية بحتة، وبين رؤية الرمز أو الدلالة التي تبرزها اللوحة المرتبطة بتحولات المرحلة بمفهومها ودلالاتها الادبية المباشرة.
وهذا يعني أن العديد من الفنانين السوريين عبروا عن معاني تشرين التحرير، بطريقة أكثر عمقاً وتوجهاً نحو الرمز واللغة التشكيلية العفوية، وهذا ما نجده في بعض لوحات برهان كركوتلي وجريس سعد وأحمد دراق السباعي، وغازي الخالدي وعلي السرميني وممتاز البحرة وغيرهم.
وتقيم الإدارة السياسية في كل عام وبمناسبة ذكرى حرب تشرين التحريرية، معرضا للفن التشكيلي السوري، ويذكر إن اللجنة المنظمة لا تحصر المشاركة بموضوع محدد، وإنما تترك للمشارك حرية مطلقة في إختيار الموضوع وأسلوب المعالجة . ومن هنا يأتي الصدق المطلق في الموضوعات المطروحة، والتي تعبر في النهاية عن الحياة العامة، بحيث يرضي المعرض جميع الأذواق والحساسيات الفنية، فلوحات الطبيعة والزهور تعبر عن الفرح بالنصر، الذي تحقق بصمود أبطال جيشنا، في حروبنا المتعاقبة، منذ السادس من تشرين، وصولاً الى نصره الأسطوري على الإرهاب، الذي جاء كثمرة تعاون بين الدول الإستعمارية، والأنظمة العربية المتخلفة، لضرب كل حركة تحررية ووحدوية تهدد العروش والأنظمة الدكتاتورية.
ومع تنوع المواضيع والأساليب والتقنيات، أصبحت المعارض التي تنظمها الإدارة السياسية، أكثر قوة من الناحية الفنية والتعبيرية، وأصبح بمقدور الفنان أن يعبر عن حسه الوطني، بلوحات تتدرج من أقصى حدود التجريدية، إلى أقصى حدود الواقعية . فالهاجس الوطني، يمكن أن يظهر بعمل تجريدي، يعتمد على دلالات اللون والبنى التشكيلية البعيدة كل البعد عن التقريرية والمباشرة الخطابية، وهذا يحتاج لثقافة ومتابعة وحساسية بصرية وروحية عالية. وتتدرج هذه المظاهر التعبيرية بمدى بعد العمل أو اقترابه من الواقعية التسجيلية، التي نرى مشاهدها في بعض الأعمال، التي لا تحتمل الإجتهاد والتأويل والتنظير, وتبقى رموزها مقروءة للجمهور من مختلف الشرائح والأعمار والمستويات العلمية والثقافية .
والذين يعرفون جوانب المسار التشكيلي والتقني لهؤلاء الفنانين ، يدركون أنهم لم يقدموا أي تنازلات على الصعيد الفني، في تناولهم للمواضيع الملتزمة بقضية الجماهير الكبرى، حيث تفاعلوا مع الأحداث بعفوية لونية مترسخة في الإحساس، لذلك ظهرت رموز النصر والتحدي والأمل في فسحات اللون القادم من تأملات معطيات الفنون الحديثة، لأن الفنان هنا كان يعيشها كحالة نابعة من تأثيرات تجاربه الفنية والثقافية.
هكذا تشكل الأعمال الفنية الوطنية، التي تناولت موضوع حرب تشرين التحريرية، المدخل الحقيقي لمعرفة مدى تعلق الفنان السوري بأرضه وقضاياه المصيرية، وتعزز مشاعر الانتماء الوطني الى سورية الحضارة ، وتطهير الأرض من براثن الاعداء.
ولقد أعطت أعمال فنانينا موضوع الشهيد، معناه الحقيقي، كرمز للتضحية والوطنية والقداسة ، والدفاع عن الأرض والكرامة والقيم الحضارية والانسانية ، وهكذا عبر التشكيل السوري الحديث والمعاصر، عن معناه الوطني، ومداه الابداعي، الذي يترك في العين والقلب فسحة أعجاب ودهشة. فالإشارات الدلالية ، تظهر بوضوح تعامل الفنان مع الرؤية القديمة والحديثة معاً ، في خطوات التدرج من ايقاع الى آخر، محققاً بذلك التعبير التشكيلي المطلوب، بين التجسيم الكتلوي المتماسك، وإيقاع الحركة المنسابة طلاقة وحيوية في المنحوتة، ودلالات الخط واللون في اللوحة، الشيء الذي منح أعمال فنانينا المرافقة ليوميات الحرب، المزيد من الحرية والبحث عن جدلية العلاقة بين الماضي والحاضر، عبر هذا الدمج الحيوي، بين الرموز الحضارية، ومعطياتها المستمرة والمتجددة والمتواصلة.

السابق