أشرت في الزاوية السابقة إلى أن كتاب ممدوح عدوان عن الزير سالم يبدو للوهلة الأولى رداً على الانتقادات التي طاولت مسلسله، لكن الكاتب ركن روحه المشاكسة جانباً ليكشف أهمية الباحث فيه، فكان كتابه بحثاً عميقاً في طريقة تناول السيرة الشعبية توثيقاً ودراما، يسلط الضوء على الكثير من الأخطاء الشائعة المسلم بها كحقائق غير قابلة للجدل، رغم أن التاريخ والمنطق ينفيها كلياً، حيث يسود بعضها بفعل الجهل، وبعضها الآخر بسبب أهواء المتلقين، كما في استجابة الحكواتي لجمهور المقهى الذي لا يسمح له بالتوقف عن سرد حكايته وعنترة في الأسر، وهي واقعة أشار لها الكتاب، وعرضها مسلسلان تلفزيونيان آخران (أمانة في أعناقكم)، الذي أخرجه علاء الدين كوكش، و(ملح وسكر) الذي كتبه دريد لحام ومحمد الماغوط.
لكن الاستجابة لأهواء المتلقين لا تتوقف عند السير الشعبية، والأعمال الدرامية، ولا حتى في الحفلات الغنائية، إنما نراها أيضاً في نصوص تسقط حالة قائمة في زمن ما على أحداث في زمن آخر، دون مراعاة اختلاف الظروف، وكذلك في مطبوعات فاخرة بأسماء رائجة لا تجد حرجاً من تزييف وقائع تاريخية حديثة ما زال كثيرون شهوداً عليها، ويسهل اكتشاف زيفها بسهولة بالعودة إلى الوثائق الموجودة بوفرة على المواقع الإلكترونية، غير أن رهان المزيفين والملفقين يقوم دائماً على جهل المتلقي وكسله، وهو رهان رابح في أغلب الحالات، إن لم نقل جميعها.
يقول الفنان دريد لحام في تعليقه على واقع الدراما بين الماضي والحاضر أن سؤال الرقابة في الماضي كان: ماذا نسمح؟ أما بعد ذلك فصار سؤالها: ماذا نمنع؟
ويمكن القول إن هذا الأمر هو حال الدراما التلفزيونية بعد دخول القطاع الخاص مجال الإنتاج الدرامي التلفزيوني، فبعد أن كانت مديرية الإنتاج التلفزيوني تقرر ما سينتج بناء على تقارير رقابية تهتم أساساً بأهمية رسالة العمل ومقولته، صار على دوائر الرقابة أن تناقش النص لجهة عدم احتوائه على ممنوعات رقابية، دون التدخل في أهمية مضمونه، ومن ثم صار على دوائر الرقابة التأكد من أن العمل المنجز بدوره لا يتضمن ممنوعات رقابية، مع أهمية التأكيد أن الرقابة السورية هي الأكثر رحابة بين (الرقابات) العربية، وأن الشكوى حولها من الأولى أن توجه إلى غيرها.
استطاعت الشركات الخاصة الكبيرة أن تجذب أميز من في الوسط الدرامي للعمل في مسلسلاتها التي امتلك كثير منها سوية فكرية وفنية هامة، وقد أدى هذا إلى تراجع أهمية مديرية الإنتاج التلفزيوني، وتراجع سوية الكثير من أعمالها، ومع بدء خضوع الشركات الخاصة ذات التمويل الخارجي، أو التمويل المشترك، لشروط الممولين بدأت الدراما السورية تخسر شيئاً من هويتها ورسالتها، كما فقدت بعض تقاليد عملها التي منحتها التميز مثل كونها دراما جماعية أولاً لا تعتمد على نجومية الممثلين.
تقف الدراما التلفزيونية السورية اليوم على مفترق طرق كشفت عنه أراء متباينة كشفت عن حجم الافتراق بين وجهتي نظر أساسيتين الأولى معنية أساساً بالحفاظ على الشخصية السورية لدرامانا، على اعتبار أن نجاح الدراما السورية عربياً كان بفضل هذه الشخصية، وعلى هذا فهي تنظر إلى الدراما على أنها عمل فني وفكري أولاً، وترى وجهة النظر الثانية أن الدراما صناعة يستوجب استمرارها توفر القدرة على تسويقها، بصرف النظر عن شخصيتها ورسالتها، وحين ننحاز للرأي الثاني ستجد دراما المؤسسات الإعلامية الوطنية نفسها في منافسة مع الشركات الخاصة.
منافسة لا يمكن لها أن تكسبها، لكنها حتماً ستخسر فيها مبرر وجودها.