الملحق الثقافي- أحمد بوبس:
نصر الدين البحرة الأديب القاص والكاتب المؤرخ.. غاص في تاريخ دمشق وحواريها وأزفتها، فاستنبط منها الدرر والجواهر، وصاغها حكايات ممتعة التي طالما نهلنا منها وتتلمذنا عليها.. ونصر هو ابن الأديب والصحفي سعيد البحرة الذي أصدر عام 1936 جريدة (لواء الجزيرة) وترأس تحريرها، وتوقفت عن الصدور عام 1941 بسبب وفاة صاحبها.
في هذه الأجواء الأدبية والثقافية نشأ نصر الدين البحرة عام 1934 في حارة مئذنة الشحم بحي الشاغور الدمشقي، فأحب الكلمة والأدب متأثراً بوالده، لكن والده توفي وهو في السابعة من عمره، فتولت والدته رعايتة، وألحقته بالمدرسة، وخلال دراسته وجد في المكتبة الظاهرية ضالته المنشودة، فقد كانت بمثابة المكتبة الوطنية، فأكب ينهل من كنوزها من الكتب والمجلدات، حتى امتلك ثقافة عميقة وموسوعية، أهّلته ليخوض غمار الكتابة في مختلف فروعها بمقدرة وتمكن.
بعد نيله الشهادة الثانوية التحق نصر الدين البحرة بكلية الآداب بجامعة دمشق ودرس الفلسفة، وبعد تخرجه من الجامعة عمل في التدريس الابتدائي والثانوية مدرساً للفلسفة واللغة العربية.
في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين وإلى جانب التدريس، عمل نصر الدين البحرة في الصحافة، وكتب في صحف (صوت العرب) و(الوعي) و(الصرخة) و(الطليعة) و(الرأي العام).. وعند إصدار جريدة (الوحدة) في دمشق عام 1959 نُدب من وزارة التربية إلى وزارة الإعلام، كي يتفرغ للعمل الإعلامي، فعمل محرراً في الجريدة، وعندما صدرت جريدة (الثورة) في أول تموز 1963 عمل فيها محرراً، وتولى فيها مهام أمين التحرير.. وتولى فيما بعد رئاسة تحرير مجلة (التراث العربي) التي تصدر عن اتحاد الكتاب العرب، كما تولى رئاسة تحرير مجلة (مجلس الشعب) التي كانت تصدر عن المجلس لسنوات طويلة، وهو مؤسسها.
في الجانب الأدبي كتب نصر الدين البحرة القصة القصيرة والشعر.. ومن أوائل قصصه (أبو دياب بكره الحرب)، شارك فيها بمسابقة القصة القصيرة في مهرجان وارسو للشباب والطلاب عام 1955، ونال بها الجائزة الثانية، وحتى نعرف قيمة هذه الجائزة، نذكر أن رئيس لجنة التحكيم كان الأديب التركي الكبير ناظم حكمت.. وتوالت بعدها قصصه، فأصدر عدة مجموعات قصصية بلغ عددها ست مجموعات هي (هل تدمع العيون)،(أنشودة المروّض الهرم)،(رمي الجمار)،(رقصة الفراشة الخيّرة)،(محاكمة أجير الفران)، و(أغنية المعول) وهي مجموعة قصصية ومسرحية للأطفال)، وأصدر مجموعة شعرية وحيدة هي (البستان).
وفي السياسة أصدر كتابي (الثورة في أفريقيا) تناول فيه المد الثوري الذي شهدته أفريقيا في النصف الأول من ستينيات القرن العشرين كثورة باتريس لومومبا في الكونغو وثورة أحمد سيكوتوري في غينيا ضد قوى الاستعمار وغيرها، وكتاب آخر بعنوان (نفسية اليهودي في التاريخ).. وهذا كتاب مهم، وضعه نصر الدين البحرة بعد أن اطلع على الكثير من الكتب التي تتحدث عن اليهود عبر التاريخ، ووصل فيه إلى أن اليهودي متعصب عابد للمال والذهب والفضة، قاسٍ تجمّع في قلبه كل حقد الأرض، وهو متعطش للدم ولا حدود لشهوته للانتقام والقتل والتدمير.. وفي السياق نفسه له دراسة مهمة بعنوان (من هو اليهودي ؟)، نشرها في مجلة (الفكر السياسي) التي تصدر عن اتحاد الكتاب العرب، وتضمنت عرضاً وافياً لكتاب يحمل عنوان الدراسة نفسها (من هو اليهودي ؟) لمؤلفه اليهودي اسحق دويتشر، وترجمه إلى العربية نجاة قصاب حسن، والذي جعلني أقف عند هذه الدراسة المهمة أنها تأتي استكمالاً لكتابه (نفسية اليهودي في التاريخ)، لأن الدراسة ولأن الكتاب أيضاً يكشف عن الحقد الصهيوني الأسود، ليس ضد العرب وحسب، بل ضد الإنسانية جمعاء.
ولنصر الدين البحرة عدة كتب في الدراسات الأدبية واللغوية، منها (الأدب الفلسطيني المعاصر بين التعبير والتحريض) و(موشور اللغة) و(أحاديث وتجارب مسرحية).. ومن كتبه الهامة (دمشق الأسرار)، ويقصد البحرة بهذا العنوان أسرار محاسن دمشق وأسرار عشقه لها، وفي الكتاب جمع كل ما كتبه الأدباء وتغنى به الشعراء عن دمشق ومحاسنها ومفاتنها.
وإضافة إلى الكتابة أعدّ نصر الدين البحرة وقدّم العديد من البرامج الإذاعية الأدبية والثقافية، كما شارك في إعداد العديد من البرامج الثقافية التلفزيونية.. وهو من رواد المسرح القومي، شارك في التمثيل في بداياته، ثم تفرغ للعمل الإعلامي والكتابة، وقبل ذلك له تجربة محدودة في التمثيل والإخراج في الأندية الفنية والفرق المسرحية الخاصة وبشكل خاص (النادي الفني).
عانى نصر الدين البحرة في أواخر حياته من العزلة ومن مرض الكورونا، ليرحل عن هذه الدنيا بتاريخ الخميس 29 نيسان 2021 عن سبعة وثمانين عاماً، أمضى أكثر من ثلثيها في خدمة العمل الثقافي والأدبي.
ونصر الدين البحرة كان بالنسبة لي أستاذاً وصديقاً، تعرفت به في مطلع الثمانينات من القرن العشرين، أي منذ أكثر من أربعين سنة، لم ينقطع خلالها التواصل بيننا، وآخر عهدي به حينما أقمت عن كتاباته القصصية ندوة بحضوره في مجمع دمر الثقافي قبل رحيله بأشهر ضمن فعاليات مهرجان دمر الثقافي الذي كنت أتولى إدارته.
العدد 1145 – 23-5-2023