الملحق الثقافي- غسان كامل ونوس:
من حقّ الثقافة أن تكون رائدة وسبّاقة، ويليق بها أن تكون بوصلة الحياة؛ ومن مراراتها ومواجعها أن تكون تابعة، والأقسى أن تكون مقموعة، أو تلاقي المضايقات في أحيازها، والعثرات في دروبها؛ ناهيك بإهمالها؛ جهلاً أو عن سابق حقد وخوف، والتغافلِ عن وقدها وضوئها.. ولمّا كان في كينونة الثقافة الواهبة بلا حساب أو منّة، وفي طبيعتها الإيجابيّة بلا تردّد أو شكّ، ورؤياها الواعية، وسعيها الجادّ، أن تبثّ إشعاعاتها وعطورها في جميع الاتّجاهات، وإلى مختلف الكائنات؛ ولا سيّما (العاقلة) منها، فإنّ على الجهات الأخرى أيّا كانت، وحيثما وجدت، ومهما كانت مكوّناتها وفعاليّاتها وقوّتها وسطوتها، أن تكون قابلة للاكتناز والانتشاء، مسهّلة للعبور، ميسّرة للسبل أمام الثقافة؛ من أجل الصالح الخاصّ والعام، والسياق القائم، والخلاص المأمول.. ولعلّ السياسة أهمّ تلك المسؤوليّات؛ لِما تستطيع أن تقوم به؛ بقواها الخشنة والناعمة؛ سلباً أو إيجاباً، وما تعتدّ به من سطوة ونفوذ، وما تمتلكه من إمكانيّات تشريعيّة وتنفيذيّة وإجرائيّة وإعلاميّة وسواها، وما تمتاز به من حركة وسرعة وتوجّهات ومبادرات؛ حسب المصالح والتفاهمات والمواقف والمناخات، التي يمكن أن تتغيّر، وتنقلب، من موقع إلى نقيضه، بين آن وآخر. ليس لهذا فحسب؛ بل لأنّ لمثل هذه الانقلابات، التي تقودها السياسة في الغالب، ويمكن أن تكون طارئة ومفاجئة وحادّة، انعكاسات وانفعالات، قد تكون بيّنة وصارخة ومفارقة؛ وهي في هذا تختلف عن الثقافة، التي تميل إلى الهدوء والتأمّل والبناء المتّزن والعمل الواعي والانشغال اللاواعي؛ أو هذا ما يفترض أن يكون؛ ولهذا فإنّ السياسة تحتاج إلى توجيهات الثقافة؛ حتّى لا تضلّ، أو تتهوّر أو تتشتّت، وستكون السياسة أكثر اقتناعاً وإقناعاً، وأقلّ تناقضاً وتعثّراً وتردّداً وحيرة، وأكثر ثباتاً ونضوجاً ومردوداً وجدوى، إذا ما اعتمدت على الثقافة، وستكون خسائرها أندر، وخيباتها وصدماتها وانكساراتها أخفّ.. مع علمنا أنّ هذا ليس ممكناً دائماً؛ فلا الوقت ولا الظرف ولا الفعل، قد يسمح به، وعليك أحياناً ربّما التصرّف مباشرة؛ أو خلال وقت قصير؛ وسيكون سلوكك أكثر حكمة وصوابيّة؛ إذا ما كنت مؤسَّساً ومغتنياً ثقافيّاً.. ومن جهة أخرى، لا يمكن أن نتغافل عمّا يمكن أن تستفيد الثقافة من قدرات السياسة، وطاقاتها الحركيّة، وقراراتها المسهمة في تأمين الأجواء المناسبة، والفضاءات الرحبة، والظروف الموائمة للإنتاج الثقافيّ الطبيعيّ، والنشاط الثقافيّ الفعّال؛ من دون فرض أو توجيه، وفتح المعابر أمام انتقال المثقّفين والمواد الثقافية على اختلاف أنواعها؛ من دون مساومة أو ابتزاز؛ كما لا ننسى أنّ عليها مسؤوليّة تدعيم المواقف، وترسيخ التوجّهات، التي ترى أنّها تصبّ في المصلحة العليا للمواطن والوطن؛ بأساليبها وأدواتها وعناصرها، وقواها الناعمة، التي تؤثّر في مختلف الميادين والمدارات.
وإذا كان مثل هذا الكلام، يصحّ في البلد الواحد؛ صغر أو كبر، فإنّه يصحّ أكثر لدى مجموعة من البلدان، ويصبح حاجة لدى دول، محكومة بالكثير من العوامل والأسباب، التي تقارب بينها، وتشترك في الكثير من العناصر البشريّة واللغويّة والبيئيّة والعقائديّة، تتشابه في الكثير من المشكلات والأعباء والضغوطات الداخليّة والخارجيّة؛ بل إنّه ضرورة في ظروف حرجة ومصيريّة، وبعد أحداث ومواجهات وانقطاعات، سبّبت تراكم السلبيّات، وتفاقم العلل، وتزايد المنغّصات لدى الأفراد والجماعات والكيانات في البلد الواحد؛ وبين أقطار متجاورة.
وليس مطلوباً ولا مرغوباً أن تكون المسألة الثقافيّة ردود أفعال مباشرة، لحال جديدة، ولا أن تُكرَّس الثقافة، أو تُسخَّر لخدمة هذا أو ذاك أو تلك من المسؤولين والتيّارات والتوجّهات، ولا أن تكون صدى لما يستجدّ من علاقات وتوافقات وتفاهمات، ولا أن تنتظر، أو تراهن على مزيد منها؛ فللثقافة قوانينها الذاتيّة، وطقوسها المميّزة، وتردّداتها الخاصّة، ووقعها المختلف؛ فهي لا ترقص في عرس، ولا تبكي في مأتم، ولا تمدح، أو تردح؛ إنّها تلاحظ، وتعاين، وتؤسّس، وترهص، وتقوّم، وتتوجّه؛ تتمثّل، وتحلم، وتتكهّن، وتؤمّل؛ بناء على مسابير استكشاف، وعصبونات استشعار، وملكات استدراك وإدراك سابقة ولاحقة، وميزات خلّاقة، وبناء على رصيد زاخر من المعرفة والمفاهيم والمستخلصات، والتخويض في أرجاء وأنواء..
وهذا لا يُبعد عنها ملامح البهجة ومعالم الرضا، وسمات الغبطة، في طقس أليف وجوّ آمن، ولا يمنع عنها الحافز والحيويّة في مشهد مبشّر؛ كما لا يمكن تجاهل ما لحقها من غبن وضيق، وما تعرّضت له من جراثيم وفيروسات، وما أصابها من أدران ودِمن؛ من جرّاء ما كانت عليه الأوضاع الخاصّة والعامّة من قتامة واحتقان ونكوص في الأنفس والأبدان.
ومن المخاطر؛ بل الكوارث، التي يمكن أن تحدث، في مثل هذه المفاصل الحرجة، أو الفصول الانتقاليّة، أن يسارع (المثقّفون) والقائمون على الثقافة إلى استغلال الانفراجات، ومظاهر الانفتاح البادية على الأرض، من أجل مصالح ذاتيّة، وتحقيق مآرب غير ثقافيّة؛ تسويقاً، أو تعويماً، أو تشويشاً، أو تعتيماً، أو كسباً مادّيّاً أو معنويّاً؛ بعيداً عن المصالح الوطنيّة، والرؤى الثقافيّة، والغايات النبيلة.
وكما يجب ألّا تبالغ الثقافة في تقدير ما يجري، وألّا تتحرّك على إيقاع السياسة الضاجّ والمتواتر بلا انضباط ولا منطقيّة أحياناً، وألّا تنخرط في الحدث؛ كأمّ العروس؛ حتّى لا تكون صدمتها كبيرة؛ كما تكرّر الأمر في السابق، وفي أوقات ليست متباعدة؛ فعليها ألّا تنعزل، أو تعتكف، أو تنتظر طويلاً؛ بل إنّ من الممكن والملحّ أن تراجع حالاتها، وأن ترمّم ذاتها، وأن تسهم في معالجة ما تستطيع ممّا أضرّت به الأذيّة في الذاكرة والوجدان، وأن تنطلق في ميادين البناء المتكاملة؛ هي التي لها في كلّ منها دور وباع ونصيب.
العدد 1145 – 23-5-2023