ترجم الغزو الصهيوني لفلسطين وسيلة لحل مشكلة داخلية أوربية، كما كان الحال مع غزوات الفرنجة للبلاد العربية، ذلك أن الوجود الصهيوني، يمثل حالة مماثلة، لجهة غربته عن المنطقة، للوجود الفرنجي، ولذلك فإن المقيمين في الكيان الصهيوني الغاصب يتملكهم، بعد خمس وسبعين سنة من وجودهم على أرضنا، الخوف من المصير المشابه الذي لقيته ممالك الفرنجة في بلادنا رغم بقائها فيها لنحو قرنيين من الزمان.
كان الفكر العنصري الأوربي دافعاً لتشجيع قيام كيان صهيوني في فلسطين يريح أوربا من مشكلة الوجود اليهودي فيها، ويصنع حاجزاً بشرياً غريباً بين مشرق الوطن العربي ومغربه، والقصد بالغربة ليس كون سكان هذا الكيان يهوداً، فاليهود لم يكونوا غرباء عبر التاريخ عن المجتمع العربي بمكونيه الإسلامي والمسيحي، إنما الغريب هو الكيان السياسي الدخيل بحكم كونه رأس جسر للمصالح الاستعمارية في بلادنا. وحين يتحدث بعضهم عن خطأ ارتكبه العرب بعدم تقبلهم لليهود القادمين من أوربا وغيرها، كما فعلوا مع كثير من الأقوام الذين لجؤوا إلى بلادهم – وسورية خاصة – هرباً من الاضطهاد كالأرمن والألبان والشراكسة وسواهم.. فإنهم يتجاهلون حقيقة أن هؤلاء جاؤوا كأفراد – مهما بلغ عددهم – واتحدوا بالنسيج السكاني لبلادنا وصاروا جزءاً فاعلاً منه، بينما الهجرات التي نظمتها الوكالة اليهودية برعاية الغرب الاستعماري جاءت بشكل كيانٍ غازٍ معتدٍ سلب الأرض من سكانها الأصليين وهجرهم منها. كما كان حال غزوات الفرنجة منذ غزوتهم الأولى عام 1096 إلى رحيل أخر فرد من جيوشهم عن الشرق العربي عام 1291 ، وقد أقامت تلك الغزوات ممالك وإمارات وإقطاعيات على أراضي أصحاب البلاد، قبل أن تطرد منها..
إضافة إلى أن هؤلاء المتحدثين عن الخطأ العربي التاريخي يتغافلون عن استقبال العرب في بلادهم ليهود أوربا الهاربين من محاكم التفتيش الأوربية سيئة الصيت، وأن اللاجئين نالوا حقوقاً مساوية لحقوق مضيفيهم، ووصل كثيرون منهم لمراتب اجتماعية واقتصادية وسياسية مرموقة..
مهد لحروب الفرنجة واقع أوربي اقتصادي واجتماعي شديد التعقيد، فالنظام الإقطاعي الذي كان يورث الأراضي والأبنية ومعظم الممتلكات والأموال المنقولة إلى الابن الأكبر، أوجد طبقة كبيرة من الأمراء الذي يحملون الألقاب الفخمة في حين أنهم لا يملكون إلا ما يجود به عليهم أشقاؤهم الكبار، وبالمقابل كان عدد الأقنان والفلاحين المعدمين الذين يعملون في الأرض أكثر بكثير من حاجتها وقدرتها على الاستيعاب، وكان هذا الواقع يخلق حالاً مضطرباً في معظم أنحاء أوربا دفع بالهيئة المهيمنة الممثلة بالكنيسة الكاثوليكية إلى السعي لترحيل المشكلة الداخلية نحو الشرق العربي بإطلاق الدعوة إلى حملات عسكرية (مقدسة) تخلص قبر المسيح من أيدي أبنائه!! وتحمي طريق الحج المسيحي الذي لم يتعرض للخطر مرة واحدة.. وقد كشفت هذه الغزوات عن زيف غطائها الديني حين ارتكبت أبشع المجازر بحق مسيحيي الشرق في القسطنطينية و انطاكيا و القدس.. وهي أحد الأسباب التي دفعت المؤرخين العرب المعاصرين لها إلى نفي أي صفة دينية عن اسمها، والإصرار على وصفها بحروب الفرنجة. ومن باقي الأسباب أن المسيحيين العرب قد قاتلوا ببسالة ضد الغزاة، إلى جانب أشقائهم المسلمين.
لا يقف التشابه بين غزوات الفرنجة والغزوة اليهودية الأوربية عند حدود ما سبق، فالسلوك الذي سلكته الكيانات الدخيلة تجاه محيطها العربي وسعيها لتكريس الفرقة والانقسام فيه، وسلوك بعض الحكام والولاة والأمراء العرب بالمقابل، فيه ما يدهش من التشابه.. وخاصة حين إمعان النظر في التحالفات التي أقامها هؤلاء الحكام مع الكيان الدخيل ضد أبناء قومهم الرافضين للوجود الاستعماري والمقاومين له، فأدرجت ذاكرة الأمة أسماءهم كخونة فيما خلدت أسماء المقاومين كأبطال ..
إنها دروس التاريخ.. لمن يريد أن يعتبر.