الثورة _ رنا بدري سلوم:
” توفي والدي وأنا ابن ست سنوات، فلم أستطع أن أنهل من علمه الكثير، لكن والدي قدّم كل ما يستطيع في تثبيت الدعائم اللغويّة لمن هو في سنّي آنذاك، فلقّنني الكثير من آيات القرآن الكريم والشعر الجاهلي وأشعار الفصحاء من شعراء العصور الإسلاميّة حتى العصر الحديث كأحمد شوقي، كما حرص على ربطي بالكتب المصوّرة التي هي أقرب للطفل على أن تكون لغتها سليمة منتقاة، كما أورثني مكتبته العظيمة وأسفارها الخالدة وفيها أنفاسه وخطرات قلمه فإن غاب جسده فهو بين مجلّداتها حاضر روحاً”.
هي ليست مقدّمة يحكيها بطلٌ في قصة أو رواية، بل هي نتاج شخصيّة أدبية ورثها الابن القاص عبدالله النفّاخ من والده الأستاذ الجامعي وعضو مجّمع اللغة العربية العلّامة أحمد راتب النفّاخ، فكل تلك السمات تلمسها في حديثك مع الابن وهو ما يثبت أن اللغة العربية إرث تتناقله الأجيال، اللغة الثقافة الانتماء الأصالة والطموح،
ولعلّ النفّاخ في حواره مع «الثورة» كان ابناً باراً بأبيه كما اللغة..
ذخيرة لغويّة
• كيف يمكن للكاتب أن يخلق شخصيّة أدبيّة خاصة به، محافظاً على اللغة وجمالياتها برأيك وأنت مثال لأدب الشباب؟
•• باعتماده على تراثه مصدراً أول لقراءته ومنهلاً أساسياً، فالأخذ بآداب الآخرين واجب، وبالأدب الحديث كذلك، لكن الذخيرة الفكريّة واللغويّة والبلاغيّة من التّراث العربي هي الركيزة الأساسية التي لا بد للأديب منها لينتج أدباً رصيناً وأصيلاً، فالجذور المبنية على الهويّة هي التي تحفظ الكاتب وأدبه من الضياع..
كائن حيّ
• وأنت خريج اللغة العربية، ماذا أضافت لك اللغة في مسيرتك الأدبية، وكيف يمكننا أن نحبب الجيل الجديد في لغتنا الأم ؟
•• ميزة دارس اللغة العربيّة دراسة أكاديمية أنه الأقدر على فهم فضائها وتحولاتها والتعاطي معها، فاللغة ليست وعاء للعلوم والآداب فحسب، بل هي كائن حيّ قادر على الخلق والتوليد، ومن يتأمل في تراث النحو وفقه اللغة والبلاغة يجد عجائب ودقائق تفسح المدى لفكره على نحو فريد، وقد قال الجاحظ يوماً: «المعاني مطروحة في الطريق وإنما العبرة بالألفاظ»، أي إن الطاقة الحيوية للفظ هي التي تكسب المعنى جماله وحيويته وتأثيره، وبهذا يمتاز الأديب عن غيره، فمهما بلغ عمق المعنى عند كاتب ما، فسنجده عاجزاً ما لم يمتلك ناصية اللغة..
وأعتقد أن أهم ما يجذب الجيل الجديد إلى لغتهم أن نتعامل معهم بمفاهيمهم وتصوراتهم الحديثة التي صنعت ميولهم، ميول أبناء هذا الجيل الذي تشكّل وعيه في ظل العالم الرقمي والحروب الطاحنة ليس كالجيل الذي عاش في دفء الأسرة والقرية والحارة وظلال البساطة، ليس من الممكن أن أدفعه إلى حب لغته بطريقة تقليدية لم تعد تتسع لها مخيلته، لا أعني هنا إلقاء الطرق القديمة جانباً بل تطويرها بالاستفادة من وسائل التقنية الحديثة والمفاهيم التي باتت تطرحها، أعرف مثلاً صاحب دار نشر تراثيّة يندب حظه ليل نهار لتراجع الشراء من مكتبته، على أنه لو رضي باستعمال وسائل التواصل للدعاية والإعلان لربح أرباحاً هائلة لأن منشوراته مطلوبة ولاسيما في مصر والعراق والخليج، لكنه لا يزال يرى استعمال هذه الوسائل مضيعة للوقت وخيانة لمنهجه التراثي! إن هذه النمطية في التفكير هي ما خلقت البينونة بين اللغة والأجيال الجديدة مع الأسف.
الحفاظ على اللغة
• كيف استطاعت اللغة أن تحافظ على نفسها في مواكبة العالم الافتراضي؟
•• إن العالم الافتراضي ومواقع التواصل الاجتماعي أتاح للمحافظين على اللغة بل للمتشددين في الحفاظ على اللغة التراثيّة المجال، كما أتاح للمنسلخين عن لغتهم، فكما كانا صدى للمفرطين كانا صدى للأشد تعصباً، وعليه فقد كانا مجالاً للحفاظ على أصالة اللغة عند فئة كبيرة من الناس، وبتنا نجد صفحات متابعة على نحو كبير وهي تنشر فرائد العبارات البليغة وأقوال أئمة الأدب القدامى والمعاصرين من المتمسّكين باللغة، وبرأيي أتمسّك به أن لمواقع التواصل والعالم الافتراضي محاسن كثيرة تفوق مساوئهما، والمعوّل عليه هو من يتعامل بها وكيف يتعامل..
حُماتها وبناتها
• هل اللغة العربية بخير؟
•• اللغة العربيّة بخير عند من يؤمنون بها، ومن لا يؤمنون بها فلن يقرّوا أنها بخير ولو سقنا لهم ألف دليل ودليل، اللغة لنا نحن العرب دوماً كانت الهويّة الأساسية لنا لأنه تجلت فيها جهود أجدادنا الشعوريّة والفكريّة كلها حتى أمد بعيد، وعليه فإن من لا يحمل انتماء لها فهو لا يحمل انتماء لأمّته ولوطنه بداهة، أما المحافظون عليها وهم ليسوا قلّة كما يروّج بعضهم فهم لا يزالون حماة مدافعين عنها، ونراهم في مواطن كثيرة، في التعليم وعلى منابر الثقافة والإعلام، ووجود غيرهم كما وجودهم، جزء من ازدواجية الحياة التي قام عليها الكون.