غطفان غنوم لـ ” الثورة “: كنت مخرجاً فاعلاً وسط المعركة يكتب بالضوء والذاكرة

الثورة – فؤاد مسعد:

عارك الحياة، بروحه وإحساسه وكاميراته، عاركها مطالباً بالحرية، موظفاً إبداعه ليكون الصوت الصارخ إلى أبعد مدى، إنه المخرج والفنان غطفان غنوم.

 

صوّر أول مشاريعه السينمائية في دمشق بعنوان “صور الذاكرة”، وبعد اندلاع الثورة رصد عبر أفلامه مراحل متتالية من الوجع السوري، انطلاقاً من المظاهرات وانتهاء بإسقاط القناع عن الديكتاتورية، فقدم بداية “بورتريه مدينة ثائرة” عن مدينة القصير، ثم انتقلت إلى رحلات الموت في “بوردينغ”، فحياة اللاجئين والتواصل عبر العالم الافتراضي مع أقاربهم في “قمر في سكايب”، وصولاً إلى “وجوه” الذي طرح فيه مشكلات اندماج السوريين في بلاد اللجوء، ليأتي فيلمه الأخير “الابن السيئ” كاشفاً الأقنعة ومعرياً الوجوه.

حصد “الابن السيئ” كغيره من أفلامه مجموعة من الجوائز، وعُرض بعد التحرير في عدة محافظات سورية، ومنه سيكون المُنطلق في لقائنا مع المخرج غطفان غنوم، الذي يمتد على جزأين.

– على أي مسافة يقف الابن البار من الابن السيئ، وهل تقدير المسافة أساسه مدى الانحياز لمبدأ الحرية؟

المسافة التي تفصل بين “الابن البار” و”الابن السيئ” هي مسافة وهمية تُرسم بخطاب السلطة، لكنها في جوهرها تعكس الفارق بين الولاء للحق والانصياع للباطل، في المجتمعات التي يحكمها الاستبداد، يتحول مَن يتمسك بالحقيقة ويطالب بالعدالة إلى “ابن سيئ”، بينما يُكلّل بالخنوع والتصفيق من يبايع الظلم بـ”البرّ”، لكن في الحقيقة، كما يكشف الفيلم، فإن “الابن السيئ” هو تجسيد للابن الحقيقي الذي لم يتخلّ عن جوهر القيم التي قامت عليها فكرة الوطن: “الحرية، الكرامة، الانتماء للإنسان”، فالمسافة ليست مادية بل مبدئية، من ينحاز للحرية يقترب من الإنسانية، ومن يبتعد عنها يقترب من الآلة السلطوية مهما بدا قريباً من دوائر الحكم.

– كيف استوحيت البوستر، الذي جمع بين تمثال الأسد الأب ولوح زجاجي مهشّم جراء رصاصة أو شظية، ويبرز منه طفل؟

تصميم “البروشور” للفنان “أبو عمر مصطفى” من قطاع غزة، ولم يكن تصميمه خياراً جمالياً فقط، وإنما هو فعل تأطير فلسفي للفيلم نفسه، كنت بحاجة إلى صورة تختزل أكثر من خمسين عاماً من القمع والتوريث والخراب، ولكن تحتفظ أيضاً ببذرة أمل، وفي ذهني “البوستر” هو الصفحة الأولى من الفيلم، بل هو شعاره البصري، رسالة صامتة لكنها مشحونة بكل المعاني التي لم تُقل بعد.

تمثال الأسد الأب لم يكن مجرد عنصر تصويري، بل تم اختياره بدقة ليمثّل الأيقونة المركزية لـ”الأسطرة السياسية”، هذا التمثال لا يجسّد فقط الديكتاتور، بل عقلية “التأليه”، إذ تتحول السلطة إلى طقس ديني، والزعيم إلى صنم أبدي، أردت أن أقول بهذا التمثال: إن القمع في سوريا لم يكن نظاماً فقط، بل عبادة.

أما البلور المهشّم، فهو ليس مجرد انعكاس للعنف، بل هو تعبير عن لحظة الانكسار التي يعيشها الشعب السوري، بلور كان ناصعاً في أحلامه، فشُظي برصاصة، أو بانفجار، أو حتى بكلمة “لا” صدح بها أحدهم، البلور أيضاً يحيل إلى الشفافية المفقودة، إلى الحلم بالوضوح الذي تكسّر على أرض الواقع من قلب هذا الركام.

والطفل لم يكن رمزاً ساذجاً للأمل، بل صورة للنهضة رغم الموت، الطفل لا يعرف الخوف بعد، لم يتلوّن بالرماد السياسي، ولا يزال في لحظة الاندهاش الأولى من العالم، حضوره كسر الفكرة النمطية عن “الجيل الضحية”، ليقول: إن هناك من سيولد من بين شظايا الزجاج، ليس ليمسح الدم فقط، بل ليعيد بناء الروح.

في تكوين هذه الصورة، حرصت ألا تكون بصرية فقط، بل وجدانية، فمن يرى البوستر ينبغي أن يشعر أنه ينظر إلى لوحة تدعوه للتأمل: مَن هو هذا الطفل؟ هل هو أنا؟ هل هو ما بقي من البلاد؟ هل هو ما سيبدأ من جديد؟، والأهم أن البوستر لا يمنح إجابة، بل يطرح سؤالاً مفتوحاً، هل سيسقط التمثال أخيراً؟ هل سيُشفى الزجاج؟ وهل سيكبر الطفل حرّاً؟.

– إلى أي مدى جاء تداخل الخاص مع العام، لتكريس المصداقية بشكل أعمق، خاصة أنك كنت تحكي بصيغة المتكلم؟

الفصل بين الخاص والعام في التجربة السورية أمر مستحيل، بل غير أخلاقي، ففي ظل الديكتاتورية، يتحوّل الشخصي إلى سياسي، ويتحول الألم الفردي إلى جزء لا يتجزأ من البنية القمعية الشاملة، من هنا، لم يكن لدي خيار إلا أن أروي الفيلم بصيغة “المتكلم”، ليس فقط لأنني كنتُ شاهداً، بل لأنني كنتُ جزءاً من الحدث، من السياق، من الجرح.

اخترت المتكلم لأن ضمير المتكلم هو ضمير الحقيقة، لا يختبئ خلف الحياد الزائف، ولا يدّعي الحيادية الباردة، المتكلم يقول: “أنا كنت هناك، أنا سمعت، أنا رأيت”، هو دعوة للمشاهد كي يرى من خلال العين التي رأت، لا من خلال كاميرا بعيدة أو نص تحليلي مجرد، وعندما أقول “أنا”، فأنا لا أستثني الآخرين، بل أضع ذاتي كجزء من جماعة، أنا لست بطلاً في القصة، بل خيطاً في نسيج أكبر.

تداخل الخاص مع العام لم يكن تقنية درامية، بل اعترافاً بواقع لا يمكن تجزئته، حين أتحدث عن أمي التي شهدت مجزرة حماة، فأنا لا أحكي قصة شخصية، بل أستحضر ذاكرة جمعية، وحين أروي رحلتي من حمص إلى الحدود، فأنا أستعيد رحلات آلاف السوريين الذين ساروا ذات الدرب، بحذاء مثقوب أو بقلب مثقوب.

الصيغة الشخصية لا تضعف الوثيقة، بل تمنحها نبضاً، كثيرون يتحدثون عن سوريا بلغة الأرقام “مئة ألف قتيل، مليون مهجّر”، لكن الأرقام صماء، أما الرواية الشخصية، فهي التي تمنح الملامح للغائبين، والأسماء للمنسيين، إنها إعادة إنسانية للمأساة، تخرجها من كونها “حدثاً إخباريّاً” إلى كونها تجربة وجودية، وقد لاحظتُ أن الجمهور- الغربي خصوصاً- تفاعل بقوة مع هذه الصيغة، لأن ما يجعل الإنسان يتضامن ليس الفكر فقط، بل التقمص، وأن يرى نفسه في مكانك، أن يشعر بأن الحكاية ليست بعيدة كما كان يظن.

والأهم من كل هذا، أن الحديث بصيغة المتكلم، هو أيضاً نوع من المحاسبة الذاتية، أن تقول “أنا” يعني أن تتحمل مسؤولية ما تقول، ولا تختبئ وراء السرد المحايد، هذه المصداقية في زمن الأكاذيب والتضليل، ليست رفاهية، بل ضرورة.

– في بناء الفيلم، تارة تتسع الدائرة لتتناول حدثاً عالمياً، وتارة أخرى تضيق لتحكي عن تفصيل حدث هنا أو هناك، ما حجر الزاوية الذي اعتمدت عليه في عملية الانتقال والربط؟.

عندما بدأت بناء “الابن السيء”، كنت مدركاً أن الزمن في الحالة السورية ليس خطاً مستقيماً، بل هو جرحٌ لولبيّ، تتكرر فيه البدايات كما تتكرر النهايات، وتتداخل فيه الأزمنة كما تتداخل الأرواح في الحرب، لذلك، لم يكن ممكناً اتباع سرد تقليدي يبدأ من “أ” وينتهي عند “ي”، كنت بحاجة إلى بنية تعكس هذا التعقيد الزمني والنفسي، وتمنح المشاهد فرصة للغوص في عمق التجربة لا في سطح الأحداث.

حجر الزاوية الأساسي في الربط كان الذاكرة بوصفها عموداً فقرِيّاً للزمن، لا التسلسل الزمني التقليدي، استخدمت تقنية “الفلاش باك” لا كأداة درامية فحسب، بل كأداة فلسفية، تعيد ترتيب الحاضر عبر أصداء الماضي، كل لحظة قمع أو قتل أو تضليل في الحاضر، لها مرآة سابقة في عهد الأسد الأب، أو في لحظة سابقة من الثورة، بهذا يصبح الفيلم ليس سرداً عن “ما حدث”، بل تأملاً في “كيف يتكرر الحدث”، و”لماذا لم يتغير شيء”؟.

الانتقالات لم تكن فقط زمنية، بل كانت مجازية ومفاهيمية، أنتقل من مشهد لطفل قتيل إلى مشهد لخطاب سياسي كاذب لا لشرح المعلومة، بل لكشف الفجوة بين الواقع والخطاب، أستخدم صورة من فيلم كرتوني “مثل توم وجيري” في لحظة يبدو فيها النظام متهالكاً، لا للضحك، بل للفضح، بهذه البساطة والسذاجة سلّم النظام الأسدي أراضيه لقاء بقائه في الحكم، هذه الانتقالات تبني جسراً بين الوعي السياسي واللاوعي الثقافي، بين الألم والتهكّم، بين الصدمة والسخرية.

كذلك، لعب الصوت الداخلي، صوتي أنا كمُتكلّم، دور المفصل السردي بين المشاهد، هذا الصوت لا يشرح فقط، بل يؤسس للربط الشعوري بين التجارب، هو الصوت الذي يحمل المشاهد من سياق إلى آخر، دون أن يشعر أنه انتقل بين عوالم مفككة.

وأحد عناصر الربط المهمة أيضاً كانت المقارنات العالمية عند الحديث عن وحشية النظام، أستدعي ديكتاتوريات أخرى “كوريا الشمالية، إيران، رومانيا، الاتحاد السوفييتي”، هذه الروابط لم تُستخدم لاستعراض ثقافة سياسية، بل لتوسيع خريطة الوعي لدى المشاهد، ليعلم أن القمع له وجوه متعددة، لكنه واحد في جوهره.

أما بصرياً، فقد كان المونتاج حجر الزاوية الثالث، أردته حاداً، مبنياً على القطع المفاجئ أحياناً، وعلى التكرار المتعمد في أحيان أخرى، لقطة الدم يجب أن تبقى في الذاكرة، فلا يُمكن مسحها بلقطة وردية، الصوت، الصورة، الإيقاع..، كلها عناصر استخدمتها لبناء شبكة من المعاني المتداخلة، وليس مجرد سلسلة أحداث بالمجمل، كان الهدف من كل عملية ربط أن يعيش المشاهد الفيلم كما نعيش الواقع، مضطرباً، مركباً، غير خطي، لكنه متماسك شعورياً، أردته أن يشعر أن كل شيء مرتبط: الصرخة في 1982 لا تزال تتردد في 2023، والنظام لم يتغير.

– إلى أي مدى شكّل توثيق “ديكتاتوريات العصر” حالة فلسفية أساسها لعبة الدومينو، فوقوع حجر يشي بتتالي وقوع الأحجار الأخرى؟

نعم، وبكلّ وعي، لعبة الدومينو لم تكن استعارة عابرة في الفيلم، بل كانت جوهراً فلسفياً بنى عليه العمل هيكليته السياسية والأخلاقية، فالديكتاتورية ليست حالة معزولة، بل نمط يتكررعالمياً، كما تتساقط قطع الدومينو حين تُسقط الأولى.

الفيلم لا يوثّق ديكتاتوراً واحداً، بل رسم خريطة للشر المنظّم، الذي يرتدي في كلّ بلد قناعاً مختلفاً، لكنّه يحمل البصمة ذاتها “عبادة الفرد، تزييف الوعي، وتدمير الإنسان من الداخل”، وما أردت قوله هو التالي: حين تسقط ديكتاتورية، فإنها تُخيف الأخرى، كما أن الثورات مُعدية، فإن الانهيارات الاستبدادية تُولد هلعاً في قلوب الأنظمة المجاورة، وهذا ما جعل الأسد يتدخل في كل مشهد سياسي محلي أو إقليمي، ويستدعي التدخلات الخارجية لحماية نموذج الحكم، لا لحماية الوطن.

في “الابن السيىء”، هذا المنطق ظهر من خلال المقارنة بين سوريا وإيران، كوريا الشمالية، رومانيا في عهد تشاوشيسكو، والاتحاد السوفييتي، هي ليست مقارنة فكرية فقط، بل سردية، كيف بدأت تلك الأنظمة، كيف احتكرت الخطاب الديني أو القومي أو الاشتراكي، وكيف صنعت أعداءً وهميين من شعوبها، ثم كيف انهارت أو تمّ تدويرها، لعبة الدومينو هنا ليست ميكانيكية، بل نفسية.

ماذا يحدث لعقل الإنسان حين يرى أن سقوط المستبد ممكناً؟.

ماذا يحدث للجمهور المحايد حين يرى أن الحقيقة، رغم كلّ شيء، يمكن أن تخرج إلى العلن؟ .

عندما قارنتُ بين الأسد الأب والابن، لم يكن ذلك مجرد نقد سياسي، بل قراءة في الجينات الأيديولوجية للطغيان العربي، فالأسد الابن ليس مشروعاً سياسياً مستقلاً، بل استمرارية لأيديولوجيا فكرية لمن سبقه، هو قطعة من دومينو طويل اسمه “الحكم الوراثي”، حيث تتحول السلطة من مشروع وطني إلى ملكية خاصة، ويصبح الشعب هو الغريب في بيته في النهاية.

لعبة الدومينو في الفيلم لم تكن فقط حول سقوط الأنظمة، بل حول تتابع الإدراك في وعي الناس، هل تكفي رؤية حجر يسقط لتتجرأ على دفع الحجر الذي يخصك؟ هل تكفي قصة بلد بعيد كي تقول “كفى” هنا؟ الفيلم يراهن على هذا الإدراك المتسلسل.

– على أي أساس تم تقسيم الفيلم إلى عناوين أفلام أجنبية شهيرة؟.

تقسيم الفيلم إلى أكثر من عشرين قسماً يحمل أسماء أفلام أجنبية مثل “سبارتاكوس”، “أبوكاليبس ناو”، “دانسز ويذ وولفز”، “لعبة العروش”، و”ذهب مع الريح”، لم يكن مجرد لعبة سينمائية أو استعراضاً ثقافياً، بل اختياراً بنيوياً وفكرياً مقصوداً، هدفه خلق خريطة ذهنية تربط القصة السورية بسياقات إنسانية كونية.

ومن خلال هذه العناوين، أردت تفكيك المركزية الغربية للخطاب الثقافي، وإعادة توجيهه ليكون خادماً للقضية السورية، لا مرآة لها فقط، كل عنوان لم يُستخدم بوصفه “اقتباساً”، بل بوصفه “عدسة” نرى من خلالها كيف أن الثورة السورية، ومأساة السوريين، ليست استثناء من تاريخ البشرية، بل استمراراً فيه “سبارتاكوس” مثلاً، لم يكن فقط عنوان عن العبودية والتمرد، بل دعوة للتأمل في معنى أن يتحول الجسد إلى ساحة رفض، أن يقول “لا” أمام آلة تسحق الإنسان، “أبوكاليبس ناو” لم يكن عن الفيلم فقط، بل عن كل جحيم تُبرّره السلطة باسم “السلام”، وعن لحظة الجنون التي تنتجها الحرب حين تصبح بلا معنى، و”Game of Thrones” أشار إلى الدينامية الفاسدة للسلطة الموروثة، وكيف تتحول السياسة إلى صراع عائلي دموي، بينما يغيب الناس عن المعادلة، وهذا الأسلوب منحن لعدة مستويات من الاشتغال:

سياق عالمي للحدث المحلي، فمن خلال هذه العناوين، أضع سوريا في قلب السرد العالمي، لا على هامشه، أقول: لسنا غريبين عن هذا العالم، بل نعيش الحكاية نفسها، بوجع أكثر وتجربة أعمق.

تشظية الزمن والخطاب، فالفيلم لا يُروى كسلسلة من الوقائع، بل كشبكة من الرموز والمواقف، هذه العناوين تعمل كـ”ـمحطات مفاهيمية” تقود المشاهد بين طبقات المعنى المختلفة- التاريخية، النفسية، الفلسفية.

حوار مع المتلقي الغربي، فهذه العناوين معروفة في الثقافة الغربية، وبالتالي هي مفاتيح تعاطف وتقمص، فحين يشاهد المتلقي فصلاً بعنوان “Gone With The Wind” ثم يرى حلب تُدمر، لا يملك إلا أن يشعر بأن مأساتنا هي انعكاس لمأساة يعرفها مسبقاً.

تفكيك الهالة السينمائية نفسها، عبر إعادة تدوير هذه العناوين في سياق مغاير، أنا أيضاً أمارس نقداً للسينما كمؤسسة خطابية لأن السينما الغربية، رغم عظمتها، كثيراً ما تجاهلت مآسي الشعوب الأخرى، أو قدّمتها من منظور فوقي، أنا هنا أستعير أدواتها، وأعيد قولبتها لمصلحة روايتي الخاصة.

وبلغة أخرى: هذه العناوين ليست “زينة”، بل “حقول دلالية”، كل عنوان هو مرآة منحوتة تعكس الظل السوري بأسلوب يتجاوز اللغة ويصل إلى الطبقات العميقة من الوعي الثقافي الجمعي العالمي.

– أيهما كان الأهم لديك، الذهاب وراء إغواء الحالة السينمائية، أم توظيف الحالة التوثيقية لانتقاء المشاهد التي تخدم فكرة الفيلم؟.

هذا السؤال يُطرح كثيراً، وكأنه يفترض تعارضاً جوهرياً بين الشكل الفني والمحتوى الوثائقي، بين الجمالية والواقع، لكن في تجربتي مع “الابن السيىء”، لم يكن التوثيق نقيضاً للسينما، بل كان نسيجها.

لم أطرح السؤال كاختيار بين طريقين، بل تعاملت معه كمعادلة تحتاج إلى توازن دقيق.

كيف أُوثق الحقيقة من دون أن أُطفئ وهج الصورة؟

وكيف أُشبع حاجتي للتعبير الفني من دون أن أخون ذاكرة الضحايا؟

في سوريا، حيث الكارثة أكبر من القدرة على الحكي، يصبح التوثيق واجباً أخلاقياً لا خياراً.

لكن كيف توثق الموت؟ كيف تقول الحقيقة في عصر كانت تتآمر فيه السياسة والإعلام على طمسها؟.

هنا تأتي السينما، لا كوسيلة تزيينية، بل كسلاح فني ضد النسيان، والسينما تُمكّنك من أن تُبطئ الزمن، أن تُكرّر اللقطة، أن تضع صوتاً فوق صورة، أن تزرع مشهداً ساخراً في قلب المأساة، لتقول ما لا تقوله الكاميرا وحدها، بعض المشاهد كانت ستفقد أثرها لو عُرضت كما هي، بلغة التقريرالبارد أو الأرشيف الجامد، لذلك، تدخلت السينما لتُضخّ فيها الحياة، لا لتزيّفها، استخدمتُ أدوات السرد، الإيقاع، الموسيقا، التقطيع، وحتى السخرية، لتكثيف الواقع لا لتجميله.

لم أُخْفِ الألم، بل أعدتُ صياغته بلغة تحتمله، وتُحتَمل، لأن الحقيقة، حين تُقدّم بشكل فجّ، قد تنفّر المشاهد أو تجعله يغلق عينيه، أما عندما تُقدَّم بلغة سينمائية إنسانية، فإنها تخترق وجدانه، والمفارقة أن الشكل السينمائي- حين يُستخدم بأمانة- قد يكون أكثر وفاءً للواقع من “الواقع ذاته”، لأن الواقع يُرى بعدسات الإعلام، بزوايا مقصودة أو خاضعة للرقابة، أما السينما فهي العدسة الحرة التي تصنع منظوراً جديداً، وتسمح بطرح الأسئلة الممنوعة.

السينما هنا ليست هروباً من التوثيق، بل امتداداً له، تجسيداً له، تجريباً في روايته، هي ليست بديلاً عن الحقيقة، لكنّها سبيلاً نحو فهمها، وتحويلها من “واقعة” إلى “تجربة في النهاية، لم أكن مخرجاً يبحث عن لقطة جميلة، ولا فقط شاهداً يوثق ما جرى، بل كنت فاعلاً وسط المعركة، يكتب بالضوء والذاكرة معاً، ولهذا لم أسأل: “سينما أم توثيق؟”، بل “كيف أستطيع أن أُنقذ الحقيقة من موتها الثاني؟”.

آخر الأخبار
"الدالاتي" ينفي مشاركته بأي محادثات تفاوضية مباشرة مع مسؤولين إسرائيليين نسمات من عبق الأدب والانتصار  على مسرح دار الأوبرا  "بيلدكس 2025": إشارات اقتصادية لمرحلة ما بعد العقوبات عبد الحنان : منصة دولية للتعاون الاقتصادي  المواطنة.. قضية فكريّة لجنة لإعادة عمال التجارة الداخلية المنقطعين بسبب ممارسات النظام البائد  ملف التأمين على طاولة " المالية " الشيباني يبحث مع تويتسكه سبل التعاون بين سوريا وألمانيا المعرفة العلميّة... أداة دفاعيّة! الرئيس الشرع من قلعة حلب: من هذه المدينة بدأ النصر ومنها نبدأ معركة البناء وزير الداخلية يبحث مع بيدرسن تعزيز التعاون الإنساني في سوريا "التعليم العالي": 206 معاهد تقانية وتقييم المناهج لمدارس التمريض رويترز: محادثات أمنية مباشرة بين سوريا وإسرائيل لمنع التصعيد الحدودي الرئيس الشرع في قلعة حلب: "حلب مفتاح النصر" محطة مفصلية في مسار سوريا الجديدة حي في "دف الشوك" بلا حاويات قمامة.. واستجابة من مديرية النظافة إزالة التعديات على شبكة المياه في البارك الشرقي بدمشق رؤى تطويرية لرفع كفاءة الكوادر في وزارة الأشغال شراكاتٌ دولية ومباحثات بين الأمم المتحدة وسوريا للنهوض بالتعليم "الأوروبي": تمويل إضافي للمساعدات الإنسانية لسوريا بعد توقف خمس سنوات.. استئناف نقل الحبوب بالخطوط الحديدية "صناعة حلب": مستوردات رديئة تزاحم صناعة الألبسة الوطنية في