الثورة – رولا عيسى:
تبقى الليرة السورية العنوان الأبرز لمعاناة الناس اليومية، فكل ارتفاع أو هبوط في سعر الصرف يترك أثره المباشر على الأسواق والقدرة الشرائية، فيما تصدر القرارات الرسمية لمحاولة ضبط إيقاعٍ، يبدو أنه خرج منذ سنوات عن السيطرة.
وتبرز السياسات النقدية كأحد أكثر الملفات حساسية في سوريا اليوم، وبين قرارات مؤقتة ووعود رسمية، يعيش المواطن واقعاً مغايراً تماماً لما يُعلن.
إذاً، أين تكمن جذور المشكلة؟ وهل يمكن للسياسات النقدية وحدها أن تفتح باب الحل، أم أن الأزمة أعمق من ذلك بكثير؟.
معالجة الأعراض لا الجذور
ضمن هذا السياق، يصف أستاذ العلوم المصرفية والمالية في جامعة حلب الدكتور فراس شعبو في حديثه لصحيفة الثورة القرارات النقدية الأخيرة بأنها مؤقتة ومجزأة، ويقول: هي ربما ساعدت بشكل أو بآخر على تحسين الصورة الرسمية وضبط الأسعار على المدى القصير، لكنها لم تكن كافية لتثبيت سعر الصرف على المدى المتوسط.
ويحدد السبب في أنّ هذه الإجراءات لم تعالج جذور المشكلة، مثل ضعف الإنتاج المحلي، العقوبات، فقدان الثقة بالقطاع المصرفي، العجز الكبير في الموازنة، والاقتصاد غير المنتج.
ويضيف: إن محاولات المصرف المركزي من خلال تحديد سقوف السحوبات أو إصدار تعاميم لدعم الليرة، بقيت ضعيفة الفعالية، لافتاً إلى أن السوق السوداء باتت المتحكم الفعلي بالأسعار، فيما نشرات المصرف المركزي لا يعوّل عليها.
ويؤكد شعبو أن السياسات النقدية تحتاج وقتاً حتى تظهر نتائجها، معتبراً أن أي إجراء نقدي لا يمكن الحكم عليه إلا بعد مرور 6 أشهر إلى سنة كاملة، لذلك من المبكر إصدار أحكام نهائية على بعض القرارات.
لكنه يشدد على أن غياب التكامل بين السياسات- النقدية (المصرف المركزي)، المالية (وزارة المالية)، والاقتصادية (وزارة الاقتصاد والتجارة) – يجعل الجهود متناقضة، بحيث يلغي أحدها أثر الآخر.
أسباب الفشل البنيوي
ويرى الخبير شعبو أن فشل السيطرة على سعر الصرف يعود إلى عوامل هيكلية عميقة منها:
نقص الاحتياطيات الأجنبية، واتساع الاقتصاد غير الرسمي ليشكّل 80 بالمئة من الاقتصاد السوري، ضعف الإنتاجية والاعتماد على الاستيراد، كذلك الفساد منذ حقبة النظام المخلوع وتراكمات الإنفاق غير المنتج، وغياب الثقة بالمصارف، التي تحولت- حسب وصفه- إلى مجرد “مخازن أموال” لا تؤدي دورها الحقيقي.
ويشير إلى أنّ القيود السابقة على السحب والتحويل عززت من هيمنة السوق السوداء التي باتت تمتلك الكتلة الأكبر من السيولة.
ويشدد الدكتور شعبو على أن الحلول لا يمكن أن تكون آنية، بل تحتاج إلى إصلاحات هيكلية تشمل، رفع الناتج المحلي الإجمالي، دعم القطاعات الإنتاجية والصناعات المحلية، تعزيز الاحتياطيات بالعملات الأجنبية، وقف التمويل بالعجز والحد من طباعة العملة، إعادة هيكلة منظومة الدعم، والتوجه نحو الصيرفة الإلكترونية لتعزيز الشمول المالي وتقليص الحاجة إلى السيولة النقدية.
ويضيف: غياب هذه الإصلاحات يعني استمرار تراجع الطلب المحلي والاستثمار، وتعطل سلاسل التوريد، والاعتماد أكثر على المقايضة والتعاملات خارج القنوات الرسمية.
لا يخفي الخبير استياءه من واقع المصارف السورية، فيقول: “المصارف اليوم ضعيفة جداً، ورأس مال أفضل المصارف الخاصة لا يتجاوز 10 ملايين دولار، بينما معظمها لا يزيد عن 3,5 ملايين، وبعضها أقل من نصف مليون، كيف يمكن لقطاع بهذا الحجم أن يواكب مرحلة إعادة الإعمار؟”
ويعتبر أن ضعف الرقابة والتأخر في إعادة الهيكلة حال دون دمج المصارف في النظام المالي العالمي، مشيراً إلى محدودية القروض والخدمات المصرفية، وحتى عدم التزام بعض البنوك بتعليمات المصرف المركزي.
الدور المنتظر للمصارف الخاصة
ورغم ذلك، يرى شعبو أن المصارف الخاصة يمكن أن تؤدي دوراً محورياً في المستقبل، عبر توسيع الشمول المالي، تقديم الائتمان للقطاع الخاص، خصوصاً المشاريع الصغيرة والمتوسطة، إدخال خدمات رقمية متطورة تخفض التكاليف وتزيد الكفاءة، استعادة الثقة بالنظام المالي من خلال منتجات مبتكرة، وتمويل الاستثمارات العملاقة المرتبطة بمرحلة إعادة الإعمار.
ويؤكد أن “المصارف الخاصة قادرة على أن تصبح العمود الفقري للاقتصاد السوري، بخلاف المصارف العامة الغارقة في الخسائر والمشكلات الهيكلية.”
تناقض الخطاب الرسمي
ويعلّق شعبو على التصريحات الرسمية بالقول: “هناك مبالغة سواء على مستوى عدة خدمات منها مثلاً الكهرباء، فالمواطن يعيش واقعاً مختلفاً، وهذا التناقض يضعف الثقة بالسلطات النقدية والاقتصادية.”
في ختام حديثه، يوضح الخبير أنه حتى الآن لا توجد رؤية واضحة لشكل الاقتصاد السوري في المستقبل، وما يُطرح من قبل المعنيين مجرد عناوين عامة ووعود فضفاضة، المطلوب اليوم استراتيجية اقتصادية حقيقية تقوم على إصلاحات هيكلية شاملة، تبدأ من إعادة الثقة بالمؤسسات المالية، مروراً بدعم الإنتاج، وصولاً إلى تكامل السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية.