الثورة – حسين صقر:
أساليب تقليدية عديدة يستخدمها الأهل لتربية الأطفال، و يعرفها الجميع، بينما يركز علماء النفس السلوكي على طرق أخرى، لايدركها الغالبية من الناس.
اللايف كوتش غدير علي محمد والخبير في علم النفس السلوكي والشؤون التنموية والتربوية، قدم إضاءاته حول هذا الموضوع في حوار مع صحيفة الثورة فما هي التفاصيل؟

– بداية ..لماذا تعتبر تربية الأبناء من أصعب المهمات وأكثرها تعقيداً؟ قال: أولاً، لكونها عملية شاملة تهدف إلى تنمية وتطوير الشخصية كالعقلية، والوجدانية والاجتماعية، والجسدية، وثانياً لأن التربية ليست مجرد نقل للمعرفة، بل هي فن يتطلب تضافر جهود متعددة من مختلف الأطراف لتحقيق أهدافها، خصوصاً في ظل الثورة الرقمية والتكنولوجية، من أجل خلق بيئة آمنة في المنزل والمدرسة، وهذا أمر في غاية الأهمية، من خلال تعزيز عملية التعليم لكونه أداة مهمة لتمكين الأطفال في الظروف الاستثنائية.
تحديات معاصرة ومساحات آمنة
– ما هي التحديات التي تواجه الأهل في تربية أبنائهم؟ قال محمد: تعيش الأسرة اليوم وسط عالم سريع الإيقاع، يزداد فيه الضغط النفسي، وتتشابك فيه المتغيرات السلوكية والاجتماعية، ومع ذلك تبقى تلك الأسرة صامدة، محافظة على جذورها، وباحثة عن أفضل الطرق لتنشئة جيل قادر على مواكبة العصر دون أن يفقد أصالته. و في قلب هذه المعادلة تأتي “مهارات الحياة الأسرية”، بوصفها حجر الأساس في بناء بيئة صحيّة وفعّالة تُعين الأطفال على النمو المتوازن نفسياً وعقلياً واجتماعياً. كما تُعدّ مهارات الحياة الأسرية اللغة الخفية والقطبة المخفية التي تنظّم إيقاع المنزل، وفي ذلك يقول عالم النفس الأميركي جوردن بيترسن: إن «طريقة تعامل الأهل مع الطفل أهم بكثير مما يقدمونه له مادياً»، و هذه المهارات لا تقتصر على حلّ المشكلات اليومية، بل تصنع جواً من الأمان الداخلي، وهو الأمان الذي يُعتبر بحسب مدرسة علم النفس الإنساني أنه المحرك الأول لنمو شخصية الطفل. وأشار اللايف كوتش أن غاية التربية ليست فقط أن يكبر الطفل، بل أن يزدهر و ينمو وهو يشعر بأنه مسموع، محبوب، ومقبول، وأن بيتَه مساحة آمنة تسمح له بأن يخطئ ويتعلّم دون خوف. – دائما يجري التركيز على أهمية الحوار مع الطفل مارأيك؟ لأنه بوابة الوعي، حيث التواصل الفعّال مع الأطفال ليس رفاهية، بل هو مهارة تتكئ عليها كل المهارات الأخرى داخل الأسرة.

وفي هذا يؤكّد عالم النفس كارل روجرز أن «الاستماع العميق هو أرقى درجات الحب»، فالطفل يحتاج إلى من يفهم مشاعره قبل أن يُحكم على سلوكه، كما أن التواصل مع الطفل يعتمد على ثلاثة أعمدة رئيسية: أولها الاستماع الفعّال: وأن يتوقف الأهل عن إسداء النصائح لحظة بلحظة، ويمنحوا الطفل فرصة للتعبير حتى النهاية. وكذلك التعبير عن المشاعر: لأن تعليم الطفل التعبير عن مشاعره، ومعرفة ما يشعر به يجعله قادراً على ضبط ذاته لاحقاً. بالإضافة للحوار المفتوح، وهذا بخلق مساحة حوار يومي غير مرتبط بالمشكلات، بل بالاهتمامات والأفكار والتجارب اليومية. – من وجهة نظركم ما هي السلوكيات والقواعد المتبعة في تنشئة الأطفال وتربيتهم؟ هناك إدارة للسلوكيات والقواعد تُبنى بالحب، وهي سلوكيات صعبة لكنها ليست مؤشراً على طفل “سيئ”، بل على طفل لم يكتمل وعيه بعد، لذلك يرى علماء السلوك أن السلوك رسالة، وأن دور الأهل هو قراءة الرسالة قبل ردّ الفعل، حيث تبدأ الإدارة الصحيحة للسلوكيات من: وضع قواعد واضحة يفهمها الطفل، وليست أوامر عابرة، أي الالتزام بالقاعدة دون قسوة و دون تهديد، و تقديم البدائل العملية وليس مجرد النهي، وأوضح أن الخبير السلوكي الأميركي سكوت بيك يرى في هذا الخصوص أن «الانضباط هو شكل من أشكال الحب»، لأنه يعلّم الطفل حدود العالم وحدود ذاته، وأن الجانب المهم هنا هو تعزيز القيم والمبادئ والتي هي بمثابة البذور التي تنمو طوال العمر، فالأسرة هي المدرسة الأولى، والسلوك الأبوي هو المنهاج الأصدق، والطفل يقلّد قبل أن يتعلّم، ويشعر قبل أن يفهم، لذلك فإن غرس القيم لا يتم عبر المحاضرات، بل عبر الممارسة اليومية. وهناك القيم الأساسية كالتعاطف، و الصدق، واحترام الآخر، وكذلك المسؤولية، التي تُشكل بنية الهوية المستقبلية للطفل، و يقول العالم النفسي إيريك إريكسون: إن «الثقة التي تُزرع في السنوات الأولى تبقى مرجعاً داخلياً مدى الحياة». -و ماذا عن أهمية الدعم النفسي والعاطفي؟ تأتي أهميتهما بالنسبة للطفل، كونهما ضرورتين تربويتين وداعمتين ليكون سليماً من الداخل، لأن الطفل الذي يتلقى دعماً عاطفياً يشعر بأنه “في مكانه الصحيح”.
وتؤكد الأبحاث الحديثة في علم الأعصاب أن الاحتضان والكلمات الداعمة تخفّض هرمونات التوتر وتزيد قدرة الدماغ على التعلم، وكذلك الدعم العاطفي لا يعني التساهل، بل يعني أن يشعر الطفل بأن الخطأ لا يلغي قيمته، وأن والدَيه يحبانه حباً غير مشروط. وحذر المدرب مثلاً من أن الصراخ يزرع القلق في أعماق الطفل، لكون هذا الفعل ليس مجرد صوت مرتفع، بل تجربة تهتز لها أجهزة الطفل الداخلية، وأوضح أن علم النفس السلوكي يؤكد أن الأطفال الذين يتعرضون للصراخ المستمر يتطور لديهم مستوى عالٍ من القلق، ويميلون لتوقّع الخطر حتى في اللحظات الهادئة، وهنا يصبح جسد الطفل في حالة “استنفار دائم”، وهو ما ينعكس على نومه وأكله وتحصيله الدراسي، وطريقة تعامله مع الآخرين، والعبرة هنا ليست في الشدة بل في الثبات، حيث الصوت الهادئ مع قواعد واضحة يبني شخصية مستقرة أكثر بكثير من الصراخ الذي يعطي نتائج مؤقتة وسلوكيات هشّة.

-في عالمنا اليوم نجد بعض التحديات المعاصرة كالتكنولوجيا والضغط الاجتماعي اللذين يجعلان الأسرة تعيش وسط بيئة معقدة..مالحل؟ لعلّ الشاشات التي تحيط بالأطفال من كل اتجاه، و الضغط المدرسي والاجتماعي المتزايد، والتغيّر في شكل العلاقات الإنسانية، هذه التحديات تستدعي من الأسرة ذكاءً تربوياً مضاعفاً، يقوم على تنظيم استخدام الأجهزة الإلكترونية دون منع كامل، و تعزيز الأنشطة الواقعية: اللعب، القراءة، والرياضة، و الحفاظ على علاقة دافئة ومستمرة داخل البيت، لأن الروابط القوية تحمي الطفل من تأثيرات العالم الخارجي. كما أن هناك جانباً مهماً يجدر التوقف عنده ألا وهو الفرق بين الرعاية والتربية، يقول الدكتور طارق السويدان إلى أن غالبية الأسر لا تقوم بالتربية بل بالرعاية فقط. و الرعاية كما يشرح السويدان تتعلق بتلبية حاجات الطفل الأساسية من طعام وملبس ودراسة، أما التربية فهي مشروع وعي، وطريقة إعداد، وفن مخاطبة الطفل كشخصية لها رأي وكيان وقدرة مستقبلية على القيادة، وأن الفرق بينهما كالفرق بين من يسقي شجرة فقط، ومن يعتني بجذورها ويهيئ لها ظروف النمو، وأن الطفل الذي يُربى وليس فقط يُرعى، يصبح مؤهلاً لصناعة مستقبله بدل انتظار الظروف لتصنعه.
الكوتش محمد وهو مُنَمذج معتمد من البورد الألماني للتدريب والاستشارات، ختم بالإشارة إلى ضرورة السير الجاد نحو بناء أسرة سورية أكثر وعياً، فالأطفال ليسوا مشاريع صغيرة ننتظر أن تكتمل، بل أرواح تبحث عن من يرافقها في رحلة الحياة. وحين تمتلك الأسرة المهارات الصحيحة، تتحوّل التربية من مهمة مرهقة إلى فعل حبّ واعٍ، ومن مواجهة يومية للسلوكيات إلى بناء هادئ لشخصيات قادرة على الفهم والعطاء.
آباء وأمهات
عدنان حلبوني وهو أب لعدة أطفال يقول: إن الأبناء بشكل عام يتعلمون منا بطريقة تفوق ما نقوله لهم. وحين تصبح طريقة تعاملنا معهم أكثر إنسانية وعمقاً، تتحول بيوتنا إلى أماكن تُخرّج أجيالاً قوية من الداخل، مستعدة للمستقبل مهما تعقدت تحدياته.أما السيدة روان قصوعة رأت أن الظروف المحيطة تؤثر في تربية الأطفال، وخاصة مع تعدد وسائل التعرض كوسائل التواصل وتطبيقاتها، والمدرسة والشارع ورفاق الدرب، وبالتالي لابدّ من أخذ هذه العوامل بعين الاعتبار، لأن التلقّي الجيّد يولّد نتائج إيجابية، وعكسه يعوق عملية التربية وينتج عنها مشكلات غير قابلة للحل.