ثورة أون لاين :
مذ تناهت إلينا , وغالباً تتناهى متأخرة , الترجمات المختلفة .. وأحيانا غير الواضحة أو الدقيقة , لكتاب « نهاية التاريخ والإنسان الأخير « للياباني الأصل والأميركي الجنسية فرانسيس فوكو ياما الصادر في العام 1992 ,
والذي تنبّأ فيه بتلاشي الصراعات الايديولوجية واستطالاتها الاقتصادية وغير الاقتصادية لمصلحة النظام الليبرالي وإعلان نهاية التاريخ .. يسكنني كما يسكن الكثيرين في هذا الوطن هاجس السؤال .. إذا كان هذا ما سيحدث في الغرب عامة وفي أميركا خاصة فماذا عنا نحن ؟
أتذكر , ومثلي كثيرون يتذكرون هذا الهاجس اليوم , ونحن نعيش منذ سنوات تحت وطأة صراع عقائدي دموي لم يرتق يوماً ليكون صراعاً ايديولوجياً , لا بل فشلت أمام سطوته .. ثم أمام بربريته وتخلفه وانغلاقه المحكم كل الأيديولوجيات التي استقدمناها أو حاولنا تمثلها في تاريخنا الحديث زمنياً سواء كانت مثالية أم مادية !
أتذكر هذا اليوم وأنا اتابع إحداثيات الغالبية العظمى من رموز الثقافة والفكر السوريين الذين عاشوا بيننا ردحاً من الزمن , خلناهم خلاله رواداً ومشاعل نور وتنوير , لا بل واعتمدناهم خشبات خلاص في زمننا الآتي لا ريب , وخُيِّل إلينا أنهم قارئون مجدون لما سيأتي من الزمان , وأنهم قادرون على استطلاع ما يجول في كواليسنا الاجتماعية والثقافية والسياسة واتجاهات كل جولة على حدة , وعلى ضبط التجوال بأناقة وحصافة من استخلص أوكسير الايديولوجيا وتمثلها ولا فرصة لردة أو انتكاس عما آمن ووعد واجتهد !
أتذكرهم , وهول الصدمة والنفور يعصف بكل الهواجس والتساؤلات وكل الأمنيات والخيالات , على طلائع وقواعد من « المثقفين والمفكرين « ظهروا عمياً لا يجيدون القراءة حتى في كراريسهم .. فما بالك بكراريسنا الاجتماعية والسياسية والثقافية .. وقد باتت مِزَقاً محترقة بين أيديهم وتحت ضوء « تنويرهم « .
بعضهم طبل فارغ خاوٍ من كل شيء سوى الصخب والضجيج الممرض .. أزاحت عنه الأحداث كل رداء وساتر فبات عارياً إلا من ورقة توت تشبع جوفاً جائعاً ولا تستر عورة ظاهرة , وبعضهم الثاني انتهازي وصولي أجاد البكاء والعويل ليلحس إصبعاً مغموساً في بركة نفط , ارتحل إلى البدائيين الخليجيين (يؤستذ) عليهم ويأخذهم بالغفلة والإدهاش والجهالة في شروحات تخلط زيد الفلسفة بعبيد الفضيلة .. ثم ينسى أن يخبرهم بأنه خريج جامعات سورية التي غسلت عن دماغه أدران الجاهلية والجهل !
أما بعضهم الثالث فعاد إلى ما كان عليه دهراً قبل حفلة العري الدموية التي أقامها أقرانه في العقيدة والمذهب , أجير يقبل أوراق البنكنوت ويرفعها إلى رأسه راضيا مرضياً .. تماماً كما يفعل بأيدي وأرجل مدبريه والوسطاء في فرصة عمله !
وبعضهم الرابع والخامس والسادس ممن انتهى التاريخ لديهم حتى قبل أن يضع صراع ايديولوجياتهم أوزاره , أو ممن انتهوا قبل أن يدخلوا التاريخ .. وحتى قبل أن ينتظموا في حاشية وداعه !
محنتنا ليست في صراع أيديولوجياتنا وانتهاء التاريخ عندنا أو انتصار الليبرالية النهائي فحسب .. محنتنا أننا لم ننتج الايديولوجيا أصلاً ولا سواها .. ولا ندري اليوم هل ندفن التاريخ أم التاريخ يدفننا ؟
خالد الأشهب