الثورة أون لاين – د. ثائر زين الدين:
ليسَ عبثاً أن يرى كثيرونَ أنّ الأدبَ – ولا سيّما فنون السرد – يمكن أن يقدّمَ البنيةَ العميقة للمجتمع الذي يولد فيه، بطريقةٍ تعجزُ عنها الدراساتُ الاجتماعيّة والاقتصاديّة المختلفة؛ وثمّة أمثلة غير قليلة على ذلك؛ منها على سبيل المثال لا الحصر ما أنتجته القاصة والشاعرة الأميركيّة الزنجيّة مايا آنجلو، ولا سيّما عملها الذي ينتمي إلى السيرةِ الأدبيّة الذاتية “أعْرفُ لماذا يُغنّي طائرُ القفص”؛ حيث تتجلّى مآسي الزنوج التي ما زالت تتكشّف حتى اليوم، وهناك رأينا الكاتبة – التي وصفت نفسها بأنها خاسرة بالولادة – ممثّلةً لمعظم بناتِ جنسها في مجتمعٍ لا يرحم. لقد اغتصبت وهي في الثامنة، وأصبحت أمّاً في السادسة عشرة من عمرها، بلا زوج. كشفت هذهِ الكاتبة كيف تجري العنصريّة في عروقِ المجتمع الأميركي كلها، وكيف تصلُ على حقلِ الكاتبةِ أيضاً تقولُ في لقاءٍ معها: “إنّها – العنصريّة – لا تتوقّف على بوّابةِ الجامعة، أو على مسرح البالية. عرفتُ راقصين وراقصات سود عظماء، قيل لهم إنّهم لا يمتلكونَ الشكل الجسدي المطلوب للباليه. وفي المسرح والسينما تقفُ العنصريّةُ على الباب. لقد كنتُ أنا أوّل مخرجة أميركيّة سوداء في هوليوود؛ لكي أتمكن من الإخراج ذهبتُ إلى السويد ودرستُ فن التصوير السينمائي، ورغم أني كتبتُ النص وألّفتُ الموسيقا له، لم يسمح لي بإخراجه”، لكن مايا آنجلو كانت شجاعة جداً وذات كبرياء، فقاومت كل ما وقفَ في طريقها من ظلم ورَفضت شكل المجتمع الأميركي الذي يتربّع الرجل الأبيض على قمّتِهِ، ثُمّ المرأة البيضاء، ليأتي على أحدِ سفوحِهِ الرجل الأسود، ولا مكان للمرأة السوداء إلّا في قاعه. رفضت ذلك ورأت أن سبب وجود السود اليوم – وفقَ تعبيرها – هو أنّهم يقاومونَ مجتمعاً عاتياً يثبّطُ عزائمهم قائلاً: “لا تستطيعونَ فعل ذلك. لا تستطيعونَ العيش. وإذا عشتم فلن تزدهروا ولن يكونَ لكم أهواء أو عواطف أو أسلوب في الحياة” لكنّ ردّة فعلها على ذلك – كما صَرّحت ذات يوم – “لا تدع أحداً يدفعك جانباً”، وهي إنّما تقتدي بزنجي اسمُهُ تيرينس اشتراهُ سيناتور روماني، ثُمّ حَرّرهُ لذكائِهِ ومواهبِهِ في قولِهِ: “أنا إنسان، ولا يمكن لأيِّ شيءٍ إنساني أن يكونُ غريباً عنّي”.
وقد أصبَحَ هذا الرجل أكثر المسرحيين شعبيّة في روما ووصلت مسرحياتُهُ التي وضعها قبل الميلادِ بنحو 150 عاماً إلينا في يومنا هذا، ولقد تمثّلت مايا آنجّلو ذلك – كما قالت – وجعلته شعاراً لها، وكانت – في حال منعها الظلمُ من نشر أعمالها وبلوغ غايتها في الأدب – ستؤلّف الموسيقا، وستغنّي وتنظم الشعر، وقد تصبح مهندسةً معماريةً أو سوى ذلك. عَدّت مايا آنجلو الشجاعةَ أهم الفضائل، فدونَ الشجاعة – على حدِ تعبيرها – لن تستطيع ممارسة أيّ فضيلة أخرى بثباتٍ واستمراريّة، وقد تجلّت شجاعتها تلك ليس في تعرية عنصريّة البيض، بل بانتقادِ الزنوج أيضاً حين يرتكبونَ ما هو غير قانوني أو إنساني، ومن ذلك مثلاً أنّها تتحدّث في “طائر القفص” عن خوفها من جدّتها حين همّت أن تمثّل مشهداً من “تاجر البندقيّة” بصحبةِ أخيها، لأن شكسبير كاتب أبيض، وصَرّحت أن جدّتها ما كانت ستكترث أن شكسبير ماتَ منذ قرون، المهم أنّه رجل أبيض. ولم تسمح لها – كما قالت فيما بعد – أن تؤدي دور بوريشا.
أما الشكل الثالث من أشكال الشجاعة، التي تحلّت بها آنجلو، فيتمثّل في شجاعتها ضمن نصّها الأدبي، في شجاعتها داخل عالم الكتابة، وقُرّاءُ نصوصها يدركون ذلك، وقد عَبّرت عن الأمر بقولها: “لا بُدّ أن أكون مسيطرة على أدواتي، على الكلمات، بحيث أجعل الجملة تقفِزُ عن الصفحة. لا بُدّ لي من جعل كتاباتي مصقولة إلى درجة أنّها لا تبدو مصقولة على الإطلاق. أريدُ أن أجعل القارئ والمُحرّر خصوصاً يمضي في كتابي نصف ساعة قبلَ أن يدرك أنّه يقرأ فعلاً” ، ثُمّ يأتي إصرارها على رفض الهزيمة في أيّ عمل ولا سيّما الكتابة، ولذلك تؤكّد في غير لقاءٍ معها أن أعمالها تتضمّن فرضيّة تقول: “يمكن أن نواجه الكثير من الهزائم، لكن لا ينبغي أن نُهزم. أعتقدُ أن الألماسة هي نتاج كثير من الضغط وكثير من الوقت. أعطها وقتاً أقل وستحصل على الكريستال بدلاً من ذلك. وبوقتٍ أقل ستحصل على مستحاثات أوراق، وبوقتٍ أقل ستحصل على مجرّد نفايات” .