الثورة أون لاين- ناصر منذر
مشهد اقتحام الكونغرس الأميركي، لن يكون حدثاً عابراً، أو حالة طارئة سرعان ما تنتهي مفاعيلها مع تسلم جو بايدن مقاليد الحكم في العشرين من الشهر الجاري، هو يؤرخ لبداية مرحلة جديدة من حالة الانقسام الداخلي، ويقوض كل المفاهيم التي تتباهى بها الولايات المتحدة بأنها دولة قانون ودستور، ومؤسسات ديمقراطية، ومسرحية العزل الجارية فصولها اليوم لن يكون بمقدورها رتق ما اعترى هذه الديمقراطية المزعومة من تشوهات مزمنة، ولن تعيد الصورة لدى أولئك المهووسين بزيفها إلى ما قبل أحداث الكابيتول أواخر الأسبوع الماضي.
بعد موقعة الكابيتول، فإن الصورة الظاهرة لأميركا بأنها الراعية للديمقراطية، لا شك قد احترقت في أذهان الأميركيين أنفسهم، قبل أن يتكشف زيفها أكثر للعالم بأسره، فحتى النظام الانتخابي الأميركي نفسه بعيد كل البعد عن المعايير الديمقراطية، ويكفي أن أميركا يحكمها حزبان فقط، والرئيس المنتخب يجب أن يكون إما “ديمقراطياً أو جمهوريا”، فماذا عن بقية فئات الشعب الأميركي؟، وماذا أيضاً عن المؤسسات الأميركية القانونية المعنية بحماية الديمقراطية وتعزيزها، ألم توصد أبوابها أمام طعون ترامب بمصداقية الانتخابات، فهو بالنهاية يبقى رئيساً، والأخبر بما يعتري نظام بلاده الانتخابي من فساد مستشر، ومزاعمه بتزوير الانتخابات وسرقتها تصبح أمراً وارداً، في ظل خضوع مفهوم الديمقراطية لهيمنة شركات المال والسلاح والنفط في الداخل الأميركي.
سواء نجحت إجراءات ” الديمقراطيين” بعزل ترامب أم فشلت، فإن إرث أميركا العنصري الذي أيقظه، هو الذي سيمزق الستار الذي تحتبئ خلفه الصورة الحقيقية لأميركا، ويعري منظومتها السياسية والأخلاقية، فهذا الرئيس المهزوم هو نتاج مجتمع قائم على نهج العبودية والتسلط، واستهتاره – أي ترامب- بالقوانين والنظم الديمقراطية ليست حالة شاذة، وإنما هي انعكاس لنزعة التمرد والتنمر التي تحكم سلوكيات النظام الأميركي، ومقتحمو مبنى الكونغرس، وبغض النظر عن كونهم مجموعة رعاع، أم إرهابيين محليين على حد وصف ” الديمقراطيين”، إلا أنهم يمثلون في النهاية نصف الشعب الأميركي ممن أدلوا بأصواتهم لترامب، وبغزوتهم تلك أعطوا مدلولاً واضحاً أنهم لا يؤمنون بالديمقراطية، ولا بالمؤسسات الدستورية التي يحتكم لها بلدهم، وهذا يعني أنهم لن يكونوا ملزمين بعد الآن باحترام القوانين الدستورية والديمقراطية التي لا يؤمنون بها في الأصل، خاصة وأن التلطي خلف تلك القوانين المشوبة بالكثير من الثغرات قد حرمهم من فوز مرشحهم للرئاسة وفق رأيهم.
الأيام القليلة القادمة، ربما تزيل المزيد من الأقنعة عن الوجه الحقيقي لأميركا، فهي تنتظرها تحولات خطيرة، فأحداث الكابيتول عمقت الشرخ السياسي والاجتماعي في داخلها، وهذا ينذر باحتدام الصراع بين مكونات مجتمعها بعدما تزعزعت الثقة بمؤسساتها الديمقراطية والدستورية، ومشهد اقتحام الكونغرس قد يتكرر في معظم الولايات الأميركية، خاصة بعدما رفض مايك بنس عزل ترامب، وبغض النظر عن مسار الأحداث القادمة، فإن أميركا لم يعد بمقدورها اليوم توزيع شهادات حسن سلوك في الديمقراطية والحرية، لأن قاموسها العنصري يفتقد بالأصل لتلك المفاهيم الإنسانية.