الثورة – هفاف ميهوب:
حكايا عديدة تستحق أن نرويها، في زمنٍ دفع الكاتب والقاص “محمد ياسين صبيح”، لتحويل أنامله إلى نايٍ نفخَ فيه من عصفِ روحه، فكان ما عزفه بـ “نايٌ من ريح”..
يعزف، وبحكمة مكّنته من اختصار كلّ قصّة من قصص مجموعته، بمفرداتٍ تحتاج إلى غوّاصٍ يستكشف ما استكشفه مُذ بدأ يروي “تاريخ الماء”..
نسأله هنا، وكمن سأله في قصته: “هل للماء تاريخ؟!.. ماذا تقصد إذا كان الماء لايدوّن الذكريات”؟!.
يجيب: “نعم له تاريخ، والماء لا يدوّن بل جباهنا من تدوّن أخبار الطين، عندما تصفعنا ذرات الرمال اللاهبة صيفاً ووحول الطرقات الهاربة من الخضرةِ شتاءً.. إنه يلهمنا بقاءً محتّماً، نعيشه بعد عبورنا ماء الحياة من دون جسور أو زوارق، تلهث ببعض أنفاسِ السهر المرير..”..
لن نغوص أكثر أو نسأل، عن الماء الثاني والثالث، فالثاني في بئرٍ يرى بأن علينا أن نحفرها قبل أن نسقط. أما الثالث، فـيجده “يهطل عليك فجأه، ويجعلك تفقد عطشك لسنين، أو تفقد روحك لقرونٍ عندما تجعلك قطرة ندى، مندهشاً قبل العطش”…
ننتقل إلى ما جسّده من “تشكيل”، عندما “سحب نفساً طويلاً، عمّر الدخان فوقه شكلاً من البيوت الواهية”، يقيناً منه بأن “الأشكال لا تأتي إلا نادراً..”..
يتأبط يبابه ويجوب في “مراعي الليل”، يتمنى أن “تحمله موجة بحرية إلى جزيرةٍ يكتنز فيها بالخصوبة.. يعزف ذكرياته بـ :”الناي المنفلت إلى عمق اللحظة، المنسكب في صمتِ الفكرة..
يرتّب وحدته دون اصطفافاتٍ ثقيلة لألحانِ العراك الدائر في القرية، بعيداً عن أنين الخوف والجرحى والقتلة، في ضمورِ العقل المنغلق على خياله، في نشوته البدائية.. يسقط الناي جانبه، بعد أن خرج منه آخر لحنٍ صامت، بلون التخوم المهملة، فأصبح لا جهة له ولا قطيعاً.. فقط “ناي من ريح”..
يبحث عن جدواه، ولو عبر “الحبّ وراء الجدار”.. بعدها، يسعى لرسمِ “ظلّ على المفرق” يحتمي به من قيظِ سفرٍ غامض، قاذفاً ذاته ضمن “اللوحة الأخيرة”، ومن ثم “يمسك بالفرشاة وعلبة الألوان، يقذفهما بعيداً من النافذة، يغلق باب الغرفة جيداً، وتتعالى ضحكات سرعان ما تتلاشى في الفضاء من دون ألوان البتّة”..
تتوالى قصص “صبيح” البليغة، في رمزيّتها الدالة على “حائط بلا مدينة”.. بلا أحاسيس ومشاعر وحياة واتّزان، ووحدها “صرخة الحيرة” من يجعله يفكّر: “قد تموت دون أن تنهي جملتك الأخيرة، التي ربما ادّخرتها إلى يوم تستطيع أن تبوح فيه بكلّ شيء”.
هكذا تكون عواصفه، وراء “باب خلف المدينة” أو “باب بلا مقبرة” حيث “النوافذ بلا أرصفة” و “المقهى على الحلم”.. مدينة وجدها: “مكان تدحرج الأحلام، وغموض الآمال.
مكان تقوقع الضعفاء، وانزواء مساحات القلّة والفاقة، إلى زوايا لفحها تكسّر الضوء، القادم من أفقٍ بعيد..”.
باختصار، المجموعة الصادرة عن “دار غراب” في القاهرة عام 2021، تشكّل عملاً تصلح كلّ قصة فيه، لأن تكون رواية الحياة التي نعيشها وتناولها الكاتب بلغةٍ امتلكت نفسها وحدسها، فأطلقت مفرداتها ببساطةٍ وشاعرية متخيّلَة أحياناً، وأحياناً أخرى واقعية مرصعة برموز الكون والطبيعة والإنسان، مثلما بنزيف الحياة ووجعها وأيضاً جاذبيّتها…

التالي