بين الشاعر والفيلسوف 2/2

الملحق الثقافي- د . عيسى الشماس:
يشير تاريخ البشرية إلى متاخمة الشعر للفلسفة وملامستها، والأفق الشعري للأفق الفلسفي؛ فالفلاسفة يتحرّكون في جوّ الشعر منذ افلاطون حتى الشعر الحديث، اذ يحدّثنا تاريخ الإبداع الإنساني عن قرابة حقيقية بين الفلسفة والأدب، ويمكن أن نشير إلى وجود فلاسفة أدباء أو شعراء وأنصاف شعراء، مثلما يمكن أن نشير إلى انشغال فلاسفة بالجمال عامة وبالشعر خاصة.. فقد وضع كلّ من نيتشة، وجيو، وأوناوز، أشعاراً فلسفية.. وكذلك الفلاسفة المعاصرون :جبريل مارسيل، وجان بول سارتر، وألبير كامو، وغوته، وباشلار، وابن طفيل صاحب حي بن يقظان، وأبو حيان التوحيدي، وسواهم ممن عبّروا عن أفكارهم الفلسفية من خلال المواقف الإبداعية الشعريّة، وذلك في لإحساس إنساني واعٍ، يؤكد الحضور المشترك للشاعر الفيلسوف(ستار تايمز ، 2010، الشاعر والفيلسوف) .. فقد يقوم بعض الشعراء الفلسفيين بإجراء استفسارات فلسفية واسعة، ويتعاملون مع مواضيع فلسفية متنوّعة في جميع جوانب شعرهم، بينما قد يركّز آخرون في فرع واحد من الشعر الفلسفي..على سبيل المثال: ثمّة من يعتبر دانتي شاعراً فلسفيّاً، بالمعنى العام، وكذلك شاعراً ميتافيزيقياً (Habib, 1999).. فالفيلسوف المثالي، من وجهة نظر الفلسفة المثالية، هو أول صوت فلسفي يفسّر العملية الشعرية تفسيراً غيبيّاً ميتافيزيقياً، وسما بالشعر والشاعر إلى درجة متقدّمة حين أقرّ بكون مصدر الشعر إلهام إلهي، فقرن الشاعر بالآلهة والعرافين الملهمين. ..
(6)
قال الفيلسوف للشاعر: إنّي أعلم ما تراه، وقال الشاعر للفيلسوف : إني أرى ما تعلمه، مثل هذا الشاعر وهذا الفيلسوف لا يختلفان، وكثيرًا ما يكمل الواحد منهما عمل الآخر، فيدرك الفيلسوف بالعلم والاستقراء ما يفتح للشاعر أبواباً للوحي جديدة، ويدرك الشاعر بالحسّ والتصوّر ما ينبّه الفيلسوف لجادةٍ في البحث مجهولة، ويوسّع لديه نطاق الفكر والاكتشاف ( مؤسّسة هنداوي، الشاعر والفيلسوف ، 2023 ) .. فثمّة تحايُل من نوع ما، تحديداً على صفة الإنسانية التي يخضع لمقتضياتها كلّ من الشاعر والفيلسوف.. فقبل أن ينطبع الشاعر بطابع النعومة نظراً للبُعد المائي في نصوصه، وقبل أن ينطبع الفيلسوف بطابع القسوة نظراً للبُعد المعدني في نصوصه، ثمّة جانب ناعم أو وجداني في طبيعة الفيلسوف، وثمّة جانب قاسٍ أو عقلاني في طبيعة الشاعر.. فالمكوّن الجدلي للإنسان يجعله سبّاقاً في تشكيل الانطباعات الأولى عن الشاعر أو الفيلسوف، وذهابه إلى الحَدِّيَّة في المرحلة البَعْديّة، وتموضعه في طابع قاسٍ أو ناعم، هو إقرار أخير بالكينونة ودفع بها باتجاه الفناء والعَدَم( بني عامر ، 2019 )..إنّ في بنات خيال الشعراء العبقريين وبنات أفكار الفلاسفة الكبار للفلسفة هي الشعر، والشعر هو الفلسفة، أي الشعر الفلسفي في أسمى مظاهره، وهي الفلسفة الشعرية في أحلى وأجمل معانيها.
ثمّة أسئلة تطرح :إذا أردت، أنت كشخص، أن تكتب عن الحبّ، أو تتحدّث عنه، تجد نفسك وقد وقفت حائراً، وربّما متوتّراً في ما يشبه مفترق الطرق الصعب، وربّما وجدت نفسك في متاهة.. أولاً، هل تكتب عن الحبّ بوصفه ظاهرة عاطفية، وجدانية ، قلبيّة، أم بوصفه ظاهرة فلسفية ؟، ثم تجد نفسك أيضاً أمام سؤال آخر.. هل تكتب عن الحبّ أم عن العشق أم عن الوله أم عن الغرام، أم عن الشغف، أم عن النجوى ؟.. وإلى آخره من درجات الحبّ وأشكاله.
والجواب : لعلّ الشاعر هو الأقدر دائماً على الخروج من المتاهة حين تطلّب منه أن يحدّثك عن الحبّ بخلاف الفيلسوف الذي يذهب بالحبّ إلى مقاربات تخيف الشاعر أحياناً ؛ فالفيلسوف، معنيّ مثلاً بالعلاقة بين الحبّ والجنون، بين الحبّ والموت، بين الحبّ والسلطة، وإلى آخره من ثنائيات مركزها الحبّ، وهي ثنائيات فلسفية تشكّل انشغالاً مركزياً للشاعر.. الذي يفلسف الحبّ بطريقته الخاصّة، وأحياناً، يستعين الشاعر بالفيلسوف ( أبولوز ، 2023 ) .. وهذه المتاهة، في كلّ الأحوال، متاهة جميلة، وحتى الضياع والبحث عن الخلاص والخروج من هذه المتاهة، قد يكون أجمل من أي ضياع آخر ليس له نهاية، وليس ثمّة سبيل للخروج منه.
(7)
إنّ الشاعر شخص مشاغب، يحمل طفلاّ في أعماقه، يريد ملامسة الأشياء واحتضان الجزئيات والتفاصيل، كما يتمثّلها بوساطة وجدانه وحدسه الأولي، وهو ينزل ليمشي فوق طمي الحياة، من دون افتراضات مسبقة أو توجّسات أو احترازات .. أمّا الفيلسوف فهو يترفّع فوق طمي الحياة التي ينظر إليها مثل أفلاطون، كعالم حسيّ زائف يشبه كهفاّ مظلماّ ، ليسكن عالماّ بريئاّ من المادة ومخالطة الحسيات، وهو العالم الذي يسميه أفلاطون بالعالم المثالي .. الشاعر لا يتخوّف من مسائل الخطأ والوهم والشكّ والتناقض، لأنّ تلك المفارقات تمثّل مادته الأولى التي يمتح منها، بل وتمثّل شرط وجوده الشعري.. وإلاّ كيف سيكون المتنبي من دون تناقضاته التي قادته إلى تضخيم ذاته، والاستجداء بشعره، وإلى مدح هذا وهجاء ذاك(شوقي ، 2008 ). والشاعر الفيلسوف، يستطيع أن يجمع بين طبيعتي الشعر والفلسفة، ليقدّم صورة تمتاز برمزية الواقع الممتع.
الخلاصة : الفيلسوف الشاعر هو من يجمع في كتاباته وتفكيره، بين الشعر والفلسفة، وإن كان ثمّة اختلاف بين الشاعر والفيلسوف في بعض الأحيان، عن دور الشعر في الحياة والمعرفة.. ولكن هناك أيضًا تكامل وتواصل بينهما في بعض الحالات ، عندما يدرك الفيلسوف ما يفتح للشاعر من وحي ويدرك الشاعر ما ينبّه الفيلسوف لجادة في البحث عن موضوعات حياتية مختلفة الجوانب والمعاني. 
                          

العدد 1175 – 23 -1 -2024    

آخر الأخبار
بعد تدخل أردني وتركي..الأمم المتحدة تدعو لدعم دولي عاجل لإخماد حرائق اللاذقية متابعة التحضيرات النهائية لانطلاق امتحانات "الثانوية" في ريف دمشق الخبير قوشجي لـ"الثورة": الأمن السيبراني أساس متين في التوجه نحو الاقتصاد الذكي "التربية" تتابع تصحيح أوراق الامتحانات في إدلب هل نستعد؟.. مهن ستنقرض في سوريا بسبب التكنولوجيا خطوة نحو إنجاز المشاريع.. نمذجة معلومات البناء وتطبيق التكنولوجيا الرقمية باراك: العالم كله يدعم سوريا رفع العقوبات وانعكاسه على مستقبل قطاع الطاقة في سوريا سحب مياه معدنية غير صالحة للاستهلاك من أسواق دير الزور الحرائق في سوريا ترسم صورة نادرة لتفاني رجال الإطفاء والدفاع المدني إعادة إعمار سوريا.. تحديات هائلة تعوق الانطلاق خبير عقاري لـ"الثورة" تكاليف فلكية إلى جانب غياب قنوا... يطيح بتعاميم النظام المخلوع.. محافظ حلب يصدر قراراً يُنصف المفصولين اجتماع أردني- سوري مرتقب في عمّان لتسوية الخلافات المائية The New Arab نصف مليون سوري يعودون منذ التحرير عودة طوعية للاجئين من الدول العربية وتركيا حضارة وادي الزيدي بدرعا.. هل يتم استثمارها سياحياً؟ الأمم المتحدة: رجال الدفاع المدني السوري يخاطرون بحياتهم لإخماد "حرائق اللاذقية" السيطرة على بعض بؤر النيران في ريف اللاذقية "بريكس" ترحب برفع العقوبات عن سوريا وتدعو"إسرائيل" لسحب قواتها رئيس مجلس مدينة القرداحة: نتخذ أقصى الاحتياطات