عبثاً يحاول أردوغان “العثماني” أن ينتقل من حلف إلى حلف في زمن يشهد فيه العالم تحولات مفصلية، بفعل التداعيات التي أحدثتها وما زالت الكوارث الاقتصادية والجائحتان الكورونيتين في العالم، اللتان تتطلبان مواقف واضحة وحادة في أي صدام لا محالة قادم سواء كان بشكل مواجهة مباشرة ترسم خريطة جديدة يتقلص فيها عدد سكان العالم ولا تقبل الألوان الرمادية أو المواقف الثعبانية، أو بشكل مواجهات متفرقة في غير مكان في الكرة الأرضية، أو حتى مواجهات “ناعمة” لكنها في كل الأحوال لن تبقى كذلك حتى تنفجر وتنتهي بغالب ومغلوب مهما تنوعت التسميات.
ولأن حديثنا عن أردوغان في هذه المشهدية فإن المراقبين لتحركاته يجدون أنه فقد توازنه خصوصاً في الفترة الانتقالية لخروج ترامب الأرعن ودخول بايدن، فهو يتصرّف وكأنه يريد أن يقفل ملفات أو يستجمع أوراقاً إلى أقصى ما يمكنه جمعه قبل حلول الحاكم الجديد في البيت الأبيض الأميركي، لأن هذا الرجل المتلون يعرف مدى التباين بين مشروعه الخاص، والمشروع الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية والذي تعمل عليه بشكل واضح منذ العام 2010. وعندما بدأ العدوان الكوني على سورية تنفيذاً لخطة أطلسيّة بقيادة أميركية التف أردوغان حول تكليف الغرب والحلف الأطلسي له بأن يكون رأس الحربة في المشروع وبدأ يعمل لاستعادة الإمبراطورية العثمانية البائدة، وتصرف منذ اندلاع حريق «الربيع عربي» على أساس أنه سلطان المستقبل.
وعندما فشل في موجة العدوان الأولى على سورية في سياق (استراتيجية الإخوان المسلمين)، وجد نفسه عرضة لسحب التفويض الغربي منه ونقله إلى السعودية التي جرّبت حظها مع سورية في “خطة بندر”، التي انتهت بالفشل ما اضطر أميركا إلى النزول مباشرة إلى الميدان في «مرحلة داعش».
هنا بدأ أردوغان بالقلق بعد التهميش الغربي له فاغتنم فرصة مدّ اليد الروسية والإيرانية له وانتظم في ثلاثي أستانا المُشكّل لمعالجة الوضع السوري ميدانياً، ورأى أنّ ذلك يمنحه الوقت للمناورة. ورغم تباينه مع قطبي أستانا (إيران وروسيا) في أكثر من موضوع فقد بقي على علاقة معهما لا تتصف بالحميمية لكنها غير صدامية.
لقد مارس هذا الكائن السياسة المتقلبة مع كلّ من عمل معه في الشرق والغرب، لأنه لم يجد نفسه مضطراً للإيفاء بوعد أو لتنفيذ عقد أو عهد، ووصلت الأمور إلى نقطة لم يعد يستطيع شركاء تركيا السكوت عنها أو المداراة فيها، وقد أحس أردوغان بالخطر الآتي واستشعر الحاجة لتدابير سريعة تحصّن وضعه.
وهذا ما جعله يعود إلى مغازلة أوروبا من الباب الألماني وهو يعتقد أنّها ليست لها طموحات شرق أوسطية. لتكون ظهيراً بديلاً عن الحضن الأميركي، وسارع في تقويض الكيان الكردي الانفصالي قبل أن يصل بايدن الذي يسعى إلى التقسيم وإقامة الكيان الكردي برعاية أميركية صهيونية.
لكل ما سبق نرى أردوغان الآن في مرحلة مراجعة مواقفه لصياغة مشروع في المنطقة يجمع عناصر المشروع العثماني والمشروع الأطلسي الأميركي، بحيث يحدّ من وجوه التناقض أو التنافر بينهما ويمنع الاحتكاك أو التناقض مع الغرب.
لقد تأسس الحلف الأطلسي لتقوم تركيا بوظيفة تكون فيها قاعدة عسكرية متقدّمة، وما عضوية تركيا في الحلف إلا لخدمة الأهداف الأوروبية والأميركية وليست من أجل استعادة امبراطورية بني عثمان، وأيّ عمل يوحي بأنّ أردوغان يعمل في سبيل ذاك الهدف لن يلقى من أوروبا والأطلسي إلا المواجهة.
وإن غدا لناظره قريب ……
معا على الطريق – د . عبد الحميد دشتي