أبيض وأسود، ولا رمادي بينهما.. خير وشر، ولا منطقة وسطى بينهما.. تلك هي التناقضات.. تباين، وتعارض يجعل الأمرين لا يلتقيان.. هما الشيء وضده، والنقيض ونقيضه.. والعصر يفرز منهما هذا، وذاك.. وكلما أوغلنا في مسار التطور كلما طفت على السطح مستجدات تحمل في طياتها متغيرات.
وها هي المتغيرات تبدأ من داخل المجتمع، والأسرة.. فبينما يسود العرف بالتضامن، والتآزر، والتوادد بين أبناء المجتمع الواحد كما ضمن الأسرة الواحدة نجد أن كل فرد ينفرد بنفسه مع أجهزته الذكية، وتطبيقاتها الأكثر ذكاء ليعيش في عالمه الخاص مبتعداً عما يدور حوله، وربما متجرداً من مسؤولياته تجاه أسرته، ومجتمعه.
وها هي أيضاً منابر التواصل تفسح المجال واسعاً لأقوالٍ لا تنطبق على الأفعال، ولادعاءات لا تدعمها الحقيقة، وهذا الأمر لم يعد ينطبق على الأفراد فقط بل إنه يصل إلى المنتجات التجارية، والشركات التي تصنّعها.. وغير ذلك كثير.
تناقضات.. تناقضات.. ولا مَنْ ينتشلنا من بحرها، أو يخرجنا من حفرتها.
يُنتقد هوس التجميل المنتشر، ونعيب على مَنْ يبالغ فيه، وتتكاثر عياداته، وأعداد مَنْ يترددون عليها..
يكثر السخط على المواقع الإلكترونية المخصصة للصور، والأفلام القصيرة، وتنهال عليها كل يوم ألوف الصور، والأفلام، ليتنامى تأثيرها حتى يبلغ الرأي العام..
نتطلع إلى غزو الفضاء، وأقدامنا تغوص في وحل نزاعات الأرض..
نتذكر زمن الفن الجميل، ونتغنى به، ونصدّر فناً هابطاً لا طعم له، ولا لون، وليس من الفن في شيء..
نعترض على التقليد، وكل ما هو غير أصيل، ويسود بيننا التقليد الأعمى لكل ما يُصدّر إلينا في السلوك، والمظهر..
نعيب على الغرب في انفتاحه الواسع، وحرياته، وفي التخلي عن بعضٍ من القيم المجتمعية، ونستنسخها على عيبها من دون أن يرف لنا جفن..
نطبع مئات الكتب الفكرية، والأدبية، والعلمية، ونقيم عشرات المعارض لها، ونُقرُّ أن الجمهور لا يقرأ، والجمهور يقرأ على هواتفه جُل وقته أخبار التواصل، والمشاهير، وما يتناثر من المثير، والآني من الأخبار..
نبحث عن طبيب بنبض إنساني يشخص لنا الداء، ويصف الدواء مع لمسة حنان، وأمان، واطمئنان يبدد الخوف من المرض، ويبث الأمل بالشفاء، ونلجأ إلى طبابة افتراضية بمجسمات واقعية..
نقول: إن المرء بأخلاقه، وصفاته، ونشتري ثياباً غالية الأثمان نتباهى بها حتى تكاد قيمتها الغالية تفوق قيمتنا الشخصية لاسيما إذا ما كانت من الماركات العالمية..
كنا نبحث عن المعلومة لنستفيد منها، ونطور من أنفسنا فأصبحنا ننصرف عنها، ولا نهتم بها وهي تأتي إلينا من تلقائها عبر شبكة المعلومات، والاتصالات..
ننادي بعدالة توزيع الثروات، ويتركز نصفها بأيدي قلة أقل من القليلة من أثرياء العالم..
نستورد منتجات الحضارة وحالة الانبهار تستولي علينا، ولا نساهم في إنتاجها..
نتعلم اللغات الأجنبية ونتقنها، ولا نجيد كتابة لغتنا الأم، ولا استخدامها كما يليق بها..
نصرخ بأعلى الصوت خوفاً من التغيّر البيئي، والمناخي، ونحذر من آثاره السلبية على البشر، والحجر، ونقيم المؤتمرات الموسعة، والطارئة، ونستمر في إفساد بيئة الأرض..
نحذر من الاستخدام المفرط للألعاب الإلكترونية، ونبتكر كل عام ما هو الأكثر تطوراً منها، والأكثر جذباً لمحبيها..
نؤكد على ضرورة التمسك بهويتنا، وثوابتنا، ونفتح أبوابنا واسعاً للغزو الثقافي بما يجلبه لنا من مفاهيم تتعارض مع مبادئنا الأساسية، وأعرافنا، وتقاليدنا..
نستقبل العولمة على أنها تمازج ثقافي يحقق الانسجام بين الشعوب، ونسير بها لتطغى العولمة الثقافية الغربية على باقي الثقافات في استلاب لخصوصيتها..
نتحدث عن قبول الآخر، ونعادي كل من يخالفنا الرأي..
نؤكد على (أثر الفراشة) في رفة جناحها إذا ما اضطرب ليأتي بالأعاصير، والزلازل، وهذا كمصطلح مجازي في التعبير عن تأثير الأحداث الصغيرة في تغيير مسار الأحداث الكبيرة، ونصنّع القنابل الذرية.
نبحث كما في الأساطير عن عشبة البقاء، ونرتكب الأخطاء التي تأتي بالوباء.
هكذا تتصادم الأضداد، وتتنامى التناقضات، ولا يبقى لنا سوى أن نرصد.. بل أن نبحث، ونحلل، لنجد الدواء قبل أن يستفحل الداء، ولا نجد منه الشفاء.