مأساة العنف، والدمار، والعدو المجنون.. وكلها عناوين لمضامين هي أكبر من كل الكلمات لأن الكلمة لا تستطيع أن تصف هول ما حصل، ويحصل في (غزة).. عناوين من حرب دامية لا يمكن وصفها إلا بالاعتداء الصارخ، والبشاعة المستمرة.
صحيح أن تاريخ الإنسانية مملوء بالصراعات، والحروب إلا أن بعض هذه الصراعات تتسم بالطابع الجائر والوحشي أكثر من غيرها من النزاعات لما تتسبب به من مأساة إنسانية كبيرة عندما تُلحق بالمدنيين، وبالبنية التحتية، والبيئية، أضراراً جسيمة كما هو الحال الآن في الأرض المحتلة مما يجعل من هذه الحرب غير العادلة التي تشهد انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، وجرائم قتل مروعة، واحدة من أكثر الحروب دموية، وهمجية في التاريخ الحديث.
منذ عدة سنوات وضعت (إسرائيل) عناوين متباينة في حدتها في حروبها المتكررة على ذلك القطاع الصامد من أرضنا العربية، وهي تبتكر لها في كل مرحلة تسميات لما تقوم به من اعتداءات، بدءاً من عملية (الرصاص المصبوب) مروراً بعملية (عمود السحاب)، و(الجرف الصامد)، حتى وصل بها الحال إلى عنوان لم تضعه هي بل وُضع لها ليغرقها في طوفانه.
وها هي تمعن على الأرض في ممارسة أكثر العناوين قسوة: من الموت قصفاً إلى الموت رعباً، ومن الموت جوعاً، وعطشاً، ونزفاً، وتهجيراً، إلى الموت خديعةً، وغدراً، وقنصاً، وحصاراً، ومن الموت في ظلمة الليل إلى الموت في وضح النهار.. وهي تتحرك بعناوينها الدامية شمالاً، وجنوباً، وفي أي اتجاه من اتجاهات الأرض الأربع فوق تلك البقعة الجغرافية بينما أثمان بشرية لا يمكن حصرها تُدفع كل لحظة في غفلة من الضمير العالمي.
من الواضح أن العدو عندما ذهب بعيداً في عدوانه، ودون أن يفكر في عواقبه إنما أرسى من حيث يدري، أو لا يدري لعناوين أكثر قوةً، ورسوخاً من عناوينه المتهاوية التي انتهجها، تجلت في نوعٍ نادرٍ قلّ مثيله من التضامن الاجتماعي المتين بين فئات الشعب الفلسطيني، والتشبث الاستثنائي بالأرض على الرغم من كل الأهوال التي تدفع بقوة للنزوح عنها، وهجرها من دون العودة إليها، وتشكل حاضنة شعبية يستحيل حصر أعداد أبنائها، وفوق كل ذلك: هزيمة أخلاقية تصل حد الفضيحة للعدو في المقام الأول.
أما الصور التي شهدناها جميعاً عبر وسائل الإعلام المختلفة، وما تحمله شبكة المعلومات، فقد استقرت في الذاكرة لتبقى كعنوانٍ عريضٍ للجريمة النكراء التي يكفي أن ترسمها صورة واحدة وهي لفلسطيني يحتضن حيواناً أليفاً لا يتوقف عن أن يرتجف رعباً من هول ما وصل إلى سمعه من أصوات عنيفة للقصف الذي يخترق جدران السمع، والبصر قبل أن يخترق الأجساد. وفي مشهد إنساني يجعل المرء يرتبك في وصفه لطفل خرج من تحت الركام حياً وهو يهدئ من روع أخيه الطفل الآخر الذي ظلت أوصاله ترتجف هلعاً، وقد انعقد لسانه حتى عن الصراخ، أو الإشارة إلى جروحه النازفة.
لقد غاب عن عدونا بالتأكيد أنه كلما سقط لنا شهيد ولد مكانه ألف مشروع لشهيد.. وكلما ازداد سفك الدماء نمت روح المقاومة، والإرادة التي لا تُقهر، وازداد الإصرار على التمسك بحق الأرض.
إلا أنه في الوقت ذاته ولدت بالمقابل عناوين شامخة تليق بعزة غزة، وهي أن أرضها هي أرض شهداء الأمل، والصمود.. وأن حدودها تقع بين حصار الحياة، وتحدي الإرادة.. وأن الرحلة إليها هي رحلة البحث عن الحرية، والكرامة.. وأن جغرافيتها ما هي إلا قصة صمود ترويها أطلال المستشفيات المدمرة، البيوت التي انهدمت فوق رؤوس قاطنيها.. وأن شهداءها هم شهداء العزة، والدرجات العلى في جنان الخلد.