وكان لي قرية.. ككل القرويين..
فيها نهر عذب المياه تتوزع الينابيع على ضفتيه.. تأتي صبايا القرية عصراً ويملأن الجرار الفخارية المشوية بالتعب والشقاء.. يضحكن ويثرثرن حكايات الحب والمواعيد الهاربة.. يسمعهن القصب البري والحصى والماء، ولا يشي بهن حتى الهواء.
وكان هناك حقول حنطة وشعير وذرة بيضاء وصفراء وبعض نباتات الجلبان التي نركض خلف قرونها المتدلية على حواف الحقول الغنّاء.
وفي قريتي كان يوجد تنور.. نجمع له الحطب من الكروم لتخبز أمي الخبز الطازج و(مطويات الزيت) أو فطائر الزبدة بالسكر.. لم يكن هناك كهرباء ولم نكن نسمع بجابي المياه.. وكنا (نحن أطفال القرية) نذهب إلى بيت أخي الكبير على تخوم المدينة لنحظى بالفرجة على احتفاليات أعياد الحركة التصحيحية وعيد الثامن من آذار ونتابع مسلسل نجود لسميرة توفيق ونعود مبهورين ومقهورين من الوحل والمطر ومن فانوس الكاز ورائحته (الغتيتة) ونوره الشحيح.. مع ذلك كنا نسهر ونقرأ ونحلم بالمستقبل المنير ككل أبناء الريف المنسي والفقير.
في قريتي.. ككل القرى الضائعة بين المروج والحقول.. يوزع الجيران على بعضهم صحون الطعام.. مجدرة وبرغل، وبرغل ومجدرة وتين، وزيت أخضر وبصل وجرجير – وكمشة – أسف إذا كانت الطبخة محروقة.. وأحياناً الصحون تدور بالحليب أو (الشمندور) الذي تصنع أمي منه (القطايف) المحلاة بالعسل وتحسب حساب الجارات ليباركن بالعجل الصغير الجديد.
وفيها.. أي قريتي.. زريبة للأبقار التي تخور عصراً وتركض مسرعة وتفزع الأطفال.. وكم سقط أمامها الأولاد.. فيبدأ الصراخ والغضب، فيأتي أبي ليؤدب الثور – قليل الأدب – بينما (شيتا) كلبتنا التي هي أفضل وأوفى من كلب جنبلاط.. تهرع مؤنبة بنباحها على العجول الشاردة والأبقار المتمردة وقد تعيدها إلى الزريبة، لتبدأ أمي بطقس الحليب اليومي، بينما أكون أنا قد نعست وقررت النوم.. إلا أن أمي تنهرني وتقول لي (يعني دروسك خلصت؟) وأخجل من النظر إلى عيني أمي.. فآخذ الكتاب لأفتح عيناً وأغلق الأخرى وأنا أحلم بعالم جديد ومستقبل أكيد.. بعيداً عن الوحل والقطيع والمطر و(الوكف) والصحون الطائرة في أرجاء المنزل والتي عليها أن تتلقف خيوط الماء النازلة من السماء.
كنت أغفو مع الكتاب ككل أبناء القرى وكل المهّمشين والمنسيين.. وفي الصباح أفيق على الصياح.. ديكة وخراف وأطفال يبكون وثغاء أيام بريئة وخوار فضاء لا يعرف الكلل.. بينما تفيق رفيقتي في المدينة على صوت المنبه اللطيف وعلى موسيقا فيروز تصدح (ع هدير البوسطة)
ومثل كل القرى.. هناك بوسطة.. تعبرني البوسطة ولا تقف لي على المفرق لأن قريتي ليست على المفرق.. فأمشي.. وامشي.. ويمرّ التنين فوق رأسي.. محملاً بالبحر المهيب.. والشمس تميل إلى المغيب.. فأسمع هدير النهر القريب.. ويا ويلي إذا نزل النهر وانقطع الطريق.. لا يوجد جسر ولا عبارة وليس سوى والدي العجوز يجلس ناطوراً على ضفة النهر ليرقب ظلي البعيد وهو ينادي على كل شبح عابر (أأنت؟)
وأحياناً لا أكون أنا.. بل يكون ظلّي المتعب المترقب.. وإذ أمسك بيد أبي أشعر أني أمسك بالعالم كله وبالزمن والأمكنة، ليبدأ السؤال عن الدرس والمدرسة وأننا – نحن الريفيون – ليس لنا سوى الكتاب.. سلاح الزمن القاسي، أهزّ رأسي موافقة وكلي توق إلى صمت الأسئلة.. لم أكن أعرف جابي الكهرباء ولا زعيق السيارات ولا الأرصفة المشوهة.. كانت الدرب ترابية رقيقة.. ترأف بأحذيتنا الرقيقة أيضاً.. لم نكن نشتري من (البالة) ولم نشعر بانقطاع المازوت أو الغاز أو تلوث الهواء.. لم نكن بحاجة إلى الهواتف ولا إلى المواعيد.. نزور حين نشتاق ونلتقي حين نمر عابرين.. الطريق لطيف آمن.. والقرى سعيدة قانعة.. تحلم بالغد وكلها ثقة بأن هذا الغد الجميل قادم كما الموج يأتي من الشط ّالبعيد.
لكن.. وكما كل القرى.. مات النهر وصار سرير المجارير.. ومات الحلم.. والغد الذي زارنا لم يقعد كثيراً في ديارنا.. مرّ جابي الكهرباء والهاتف والماء وقطع لنا الفواتير وهددنا بزمن مرير فتغير السؤال وصارت حالنا حال.
وككل القرى التي هاجرت.. هاجرت قريتي وتركتني أبحث عن عنوانها وعن ألوان زمانها.
غير أني كل فترة أتخيل أني رأيتها لكن بلا نهر ولا مروج ولا أم ولا تنور ينشد مواويلها
ومثل كل القرى تضع قريتي سورة الفاتحة، وصور شبانها الشهداء على بابها.. لتقرئهم السلام في الذهاب والإياب.
أنيسة عبود
التاريخ: الأربعاء 3-4-2019
رقم العدد : 16947